IMLebanon

شركات النفط الوطنية أين نحن مِن العالم؟

قبل ما يقارب الاربعين عاما، كانت شركات النفط الوطنية تؤمن7-8 في المئة من انتاج البترول في العالم، مقابل أكثر من 92 في المئة للشركات الأجنبية، وعلى رأسها الشركات العملاقة التي كانت تسمى «الأخوات السبع»، اضافة الى الشركات الأخرى «المستقلة». ومنذ تلك الفترة انقلبت الأوضاع رأسا على عقب إذ إن الشركات الوطنية قد اصبحت تؤمن اكثر من 80 في المئة من الإنتاج وتسيطر على أكثر من 91 في المئة من مجموع الاحتياطي البترولي الثابت وجوده في العالم. التطور نفسه والنسب نفسها تنطبق الى حد كبير على احتياطي وانتاج الغاز الطبيعي.

هذه الأرقام توجز التطورات الجذرية التي طرأت على صناعة البترول والغاز خلال الاربعة عقود الماضية، وذلك نتيجة لعوامل عدة أهمها الاستقلال السياسي الذي انتزعته الدول النامية المنتجة، وإقدام هذه الدول على تأميم او شراء ممتلكات الشركات الأجنبية بغية ممارسة كامل حقوق السيادة على ثرواتها الطبيعية، وذلك عن طريق انشاء شركات نفط وطنية تمكنت من القفز بسرعة من دور متواضع خلال السنوات الاولى من تأسيسها الى مكان الصدارة الذي باتت تحتله اليوم.

هذه التطورات أدت الى المعطيات الجديدة التي نراها اليوم على ساحة صناعة البترول والغاز، من حيث هيكليتها وتنظيمها والقوى العاملة فيها ومراكز القوة والضعف لدى الشركات والدول المعنية. وهي كلها معطيات تفرض طبعا نفسها على أي بلد كلبنان يحتاج لسياسة طاقة وطنية واضحة، ويأمل دعم قوته التفاوضية عشية الدخول في مفاوضات مع شركات أجنبية لاستثمار ثروته الموعودة. ويمكن ايجاز هذه المعطيات في النقاط التالية:

1 ـ تحولات جوهرية في صناعة البترول والغاز العالمية:

في القرن الماضي، كانت الشركات الاجنبية صاحبة الامتيازات القديمة هي المعارض الأساسي لوجود شركات بترول وطنية، إذ كانت تعتبرها بطبيعة الحال منافسا لها وتهديدا لهيمنتها على هذه الصناعة، في البلدان المصدرة والبلدان المستهلكة على حد سواء. وفي طليعة الحجج التي كانت تقدمها في هذا السياق ان الدول المذكورة لا تملك الخبرة والوسائل الفنية والمالية للحلول مكانها. اما في البلدان العربية المنتجة للبترول فقد استعملت الشركات صاحبة الامتيازات كل الوسائل الممكنة لهذا الغرض، كما ذهبت لحد الاستنجاد ببعض المستشارين المحليين للعثور على آيات قرآنية يمكن ان يستدل منها ان إلغاء الامتيازات القائمة لا يجوز شرعا، بحجة انه يمس «قدسية العقود» (Sanctity of contracts). هذا مع العلم ان العقود المذكورة كانت في الواقع نصوصا وضعتها الشركات المعنية في لندن او نيويورك قبل ان تعرضها لتوقيع او، عند الضرورة، لبصمة اصبع الحاكم المحلي.

ومن اللافت ان الدول التي كانت اول من انشأ شركات نفط وطنية للتحرر من سيطرة «الأخوات السبع» لم تكن من البلدان الأعضاء في منظمة اوبك، بل من دول اوروبية او غيرها على رأسها، حسب الترتيب الزمني، انكلترا (British Petroleum في عام 1914)، والارجنتين (YPF، في عام 1922)، وفرنسا (CFP، في عام 1924)، وايطاليا (Agip، في عام 1926)، والمكسيك (Pemex، في عام 1938)، والبرازيل (Petrobras، في عام 1953)، والهند (ONGC، في عام 1956)، علاوة على الاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا والصين.

2 ـ زمام المبادرة اصبح في يد الشركات الوطنية:

بعد ان شقت بعض الدول الاوروبية طريق الاستقلال من هيمنة الشركات البترولية متعددة الجنسية، فالواقع ان المنعطف الحاسم الذي قاد الى الوضع الراهن لصناعة البترول والغاز كان التأميمات التي بدأت في المكسيك عام 1938 وإيران عام 1953، ثم في الدول العربية وغيرها في سبعينيات القرن الماضي، وما رافق ذلك من انتقال ملكية القسم الأعظم من احتياطي البترول والغاز الى الدول المذكورة، وقيام شركات نفط وطنية اكتسبت بسرعة الخبرة اللازمة لاتخاذ زمام المبادرة وتكييف قواعد اللعبة. هذا التبدل الجذري لم يترجم فقط بسيطرة الشركات الوطنية على أكثر من 80 في المئة من الانتاج و90 في المئة من الاحتياطي في العالم، بل ايضا بتطوير اسرع مما كان متوقعا للقدرات الفنية والادارية لهذه الشركات التي اصبحت اليوم تقوم بالقسم الأكبر من الأنشطة التي كانت تمارسها الشركات الأجنبية قبل عملية التأميم. وهكذا نرى على سبيل المثال ان الشركات الوطنية قد حققت ما لا يقل عن 28 من اصل أكبر 40 اكتشافا يفوق كل منها 500 مليون برميل تم الاعلان عنها خلال الفترة 2008-2014. وهذا ما يفسر زيادة نسبة الاحتياطي الى الانتاج (Reserves/Production Ratio) التي تبلغ حاليا 78 سنة بالنسبة للشركات الوطنية، مقابل 13 سنة فقط للشركات متعددة الجنسية.

ثمة مؤشر هام آخر يعبر عن مستوى كفاءات الشركات الوطنية الادارية والمالية، الا وهو نسبة قيمة الشركة الى ارباحها (Price/Earning Ratio) والتي بلغت خلال السنوات الماضية حوالي 10 لأكبر ست شركات وطنية يتم تداول اسهمها في البورصات العالمية، مقابل نسبة لا تتجاوز 7 لأسهم الشركات متعددة الجنسية.

3 ـ اعادة توزيع الأدوار والصلاحيات :

انتقال ملكية القسم الأعظم من الاحتياطي والانتاج من الشركات الخاصة الى الشركات الحكومية ادى بطبيعة الحال الى إعادة تقاسم وتوزيع الادوار والاختصاصات على الشكل التالي:

تكاثر شركات الخدمات: نتيجة للفراغ النسبي الذي نجم عن تأميم الشركات صاحبة الامتيازات القديمة، من جهة، ولضعف تجربة الشركات الوطنية خلال السنوات الاولى لإنشائها، من جهة ثانية، استدعيا تأسيس وتطور سريع لعشرات مما يسمى «شركات خدمات» اصبحت تعمل اليوم في مراحل الأنشطة البترولية كافة، على الأرض وما تحتها، باستثناء الانتاج، وتبيع خدماتها للدول المنتجة وللشركات متعددة الجنسية او المستقلة على السواء. أبرز شركات الخدمات هذه هي: Halliburton، و Baker Hughes، و Schlumberger، و Weatherford، و Fluor، و Transocean …الخ.

تركيز الشركات المتعددة الجنسية على المشاريع المعقدة؛ في اعقاب فقدان معاقل نفوذها في المناطق الغنية بالبترول والغاز، كانت ردة الفعل الطبيعية للشركات العملاقة إعادة توجيه نشاطها نحو:

أولا، المشاريع التي تتمتع فيها بقدرة فنية وتنافسية لا تنازع عليها من نوع التنقيب عن الهيدروكربونات وانتاجها في محيط الاركتيك وتطوير انتاج ما يسمى البترول والغاز غير التقليديين.

وثانيا، الحؤول دون استمرار انخفاض احتياطيها من الهيدروكربونات عن طريق مشاركة الشركات الوطنية في إطار «عقود تقاسم الانتاج». وذلك لان هذا النوع من العقود الذي انتشر بسرعة يوفق بين مصلحة البلد المضيف لجهة ممارسة حقوق السيادة على ثرواته والافادة من خبرة وتمويل الشريك الاجنبي، كما يتيح للشريك الأجنبي امكانية ضم نصيبه من الانتاج الى الإصول النفطية التي يمتلكها، كما تسمح له بذلك أنظمة Security and Exchange Commission الاميركية. هذه الشروط تفسر تفضيل الشركات الكبرى لهذا النوع من العقود مع الشركات الوطنية، على نموذج التعامل معها في اطار عقود خدمات حيث بلغ التنافس أشده مع شركات الخدمات الكبرى.

تعدد الخيارات امام الشركات الوطنية: النتيجة الطبيعية لكل هذة المستجدات في صناعة النفط العالمية ان شركات النفط الوطنية قد اصبحت بسرعة في وضع يسمح لها باختيار مَن تود ومَن ترى من مصلحتها التعامل معه بين عدد متزايد من الشركات البترولية الخاصة وشركات الخدمات التي تتنافس بعضها مع بعض، والتي باتت توجه نشاطها وتكيف سياساتها وفق حاجات الشركات الوطنية.

لماذا المشي بعكس السير في لبنان؟

في ضوء التطور السريع لشركات البترول الوطنية ودورها المتعاظم في أسواق البترول والغاز العالمية، لا يسع المرء الا ان يفاجأ بالوضع الشاذ الذي ما زال قائما في لبنان الذي أصبح منذ عشرات السنين البلد شبه الوحيد على وجه الكرة الأرضية، والبلد الوحيد بين الدول العربية من المحيط الى الخليج (علاوة حتى على إقليم كردستان العراقي)، الذي لم يبادر بعد لإنشاء شركة نفط وغاز وطنية، لا بل إن الجدل البدائي ما زال يدور حول جدوى تأسيس مثل هذه الشركة، او حول السؤال عما اذا كان الأوان قد حان او لا لذلك! وذلك كله على الرغم من الحاجة الماسة القائمة منذ الاستقلال لشركة حكومية تعنى بكل ما يمس هذه الصناعة، بما في ذلك الاستيراد والنقل والتكرير والتوزيع والبتروكيمياء والبحث العلمي والتدريب، وغدا الاستكشاف والانتاج والتصدير …الخ.

هذا المشي عكس السير، وعكس مجرد الحس السليم، وخاصة عكس مصلحة اللبنانيين الأساسية، لا يمكن تفسيره الا بانعدام شيء يمكن ان يسمى سياسة وطنية، وبتغليب بعض المصالح الخاصة على المصلحة العامة، عبر التعتيم واستشراء الفساد. وقد بلغ هذا الوضع الشاذ ذروته بعد ان قامت بعض الجهات، وعلى رأسها هيئة ادارة البترول، بتزوير القانون البترولي 132/2010، اذ قررت في مشروع المرسوم التطبيقي الخاص بهذا القانون منع الدولة من المشاركة في الأنشطة البترولية، عبر شركة نفط وطنية، وحصر حقوقها وصلاحياتها في مجرد دور «مراقب» في لجان ادارة الشركات الأجنبية العاملة ! لا بل ان البوادر تشير الى ان معارضة بعض اعضاء هذه الهيئة لقيام شركة وطنية مستقلة تعود لرغبتهم في انتظار نهاية مهامهم الحالية بعد حوالي ثلاث سنوات، للانتقال (عندما يحين الأوان) ووضع اليد على الشركة الوطنية العتيدة.

هذا كله يعني بتعبير آخر ان بعض موظفي الدولة ممّن قدمت لهم الدولة ما لم تقدمه لغيرهم، والمفترض فيهم السهر على مصلحة اللبنانيين، اصبحوا في الواقع أكبر حجر عثرة على طريق تحقيق هذه المصلحة. وما هذا التصرف سوى واحد من التصرفات الاخرى المخجلة في مسيرة البترول والغاز في لبنان، تصرفات لا وجود لمثيلها في اي بلد آخر، وتصرفات لو حصل ما يشبهها في أي بلد لكان كافيا لإسقاط الحكومة، او لكف يد الوزير المعني او، على الأقل، لمساءلة ومحاسبة المسؤولين…