IMLebanon

تنقيح نسخة العروبة اللبنانية

انفرد لبنان بالحديث عن عروبة خاصة به، وتمايز عن أقرانه من البلدان العربية بنطق خاص بالضاد العربي السياسي والمصالحي منذ نشأته الاستقلالية، وفي المقابل ارتضى «الإخوة في العروبة» لهجة النشأة اللبنانية، فكان ذلك الرضا رديفاً للإدارة الغربية التي قضت بوجوب وطن للمقيمين بين الجبل والبحر، أوسع قليلاً جغرافياً، ومترامي الأطراف على صعيد المعنى التعددي والتساكن المختلف، في الدين وفي قراءة الخلفيات التاريخية المتباينة لكل مكوِّن من مكوناته.

التذكير بعروبة النشأة اللبنانية اقتضاه دائماً الاهتزاز السياسي الذي رافق العروبة وفق ما تم تعريفها داخلياً، بعد أن وجد المدى العروبي المفترض مقولاته مقيدة بتعريفات الوطنية المحلية، وبأحكام الحدود الجغرافية والهواجس الديموغرافية. لم يحصل أن كانت اللبنانية تعداداً سكانياً فقط، ولم يحصل أن كانت العروبة في لبنان نزوعاً نخبوياً حصرياً، بل إن تداخل المقولتين فكرياً ومادياً، شكَّل وما زال طرفي معادلة قلقة، تتخذ شكل التوجس، وتظهر في لبوس النفور، وترفع متاريس الإثنية والعرقية واللغة والحضارة، ولا تتورع عن ركوب مركب الانفجارات الأهلية الخطيرة… كل ذلك عرفته المعادلة القلقة اللبنانية، ومن معرفتها هذه، كتبت نسخ لبنانية عدة، كان الثابت منها، أي ذاك الذي أكدت كل التطورات ثباته، وجود المعطى الوطني اللبناني الداخلي الذي امتنع على العاصفة العروبية القومية، فواجهها من داخل بنيته، وبالاستعانة بحلفاء من خارجها. هذا الثبات كان باهظاً، مثلما كان متدرجاً ومتحولاً، وهو الآن ثبات متكيف «يلبس كل حالة لبوسها» مستعيناً بإرث من الحذلقة اللبنانية، وبافتراض شطارة محلية «فينيقية» تكتفي من كلفة السياسة الباهظة بجانبها التجاري، بحيث تعود إلى الواجهة دائماً مقولة المشاركة اللبنانية «بالغنم العربي»، والنأي ما أمكن عن الدمج ما بين «الغنم والغرم»، نأي يعتقد أهله أن لا قدرة للبنان على احتمال الغرم الذي يصير في الحالة التكوينية اللبنانية، عنصر خطر بنيوي داخلي لا تحمد نتائجه، ولا تؤمن عواقبه.

لقد تخففت النسخة اللبنانية العروبية تباعاً من أعباء عروبة الخطاب القومي، وتخلصت النسخة ذاتها من أعباء التأثير اليساري بمنوعاته الاشتراكية والقومية والتقدمية، لذلك صارت الجملة العربية اللبنانية أيسر صياغة، وصار النطق بها بلا كلفة ميدانية ملموسة، ولربما بالغ الخطاب العروبي اللبناني في عروبته، عندما صار الأمر أمر شعارات عامة، وبات الالتزام بالقضايا العربية مقتصراً على إعلانات تضامنية مبدئية، لا تترتب عليها سياسات ثقيلة الوطأة، وتوفِّر على من يرفع لافتاتها عناء الشرح التضامني العروبي الطويل.

لكن العروبية القومية التي خرجت الأنظمة المعنية بها من ساحاتها، أفسحت في المجال أمام «إسلامية» وافدة اتخذت من الشعارية النضالية وسائل نفاذ إلى الداخل اللبناني، وبنت على قواعد «الإسلاميات» اللبنانية نفوذها المتدرج، بالاتكاء على العناوين النضالية القومية ذاتها التي خَفَتَ نورها ثم تلاشى، في ديارها العربية. مع هذه الإسلامية، عادت اللبنانية لتدفع ثمناً مركباً يتشكل من تحرير الأرض الوطنية المحتلة، ومن إعلان العزم على الاستمرار في مسيرة تحرير فلسطين. هكذا استعادت الوطنية اللبنانية قلقها العربي مطعماً بالبعد الإقليمي، وهكذا تفاقم تعطيل الانتظام اللبناني الذي استخدمت بيئته مجدداً كساحة لتعظيم النفوذ أو كمجال لاختبار الطموحات الخارجية.

وما تركه الاختلاف اللبناني الإجمالي السابق بين «يسار ويمين»، حلَّ محله انقسام فئوي بين أديان ومذاهب، وبناءً عليه، صار الانقسام العربي حول لبنان من جنس انقسامه الداخلي، يؤسس عليه ويرعاه، ويعطي معادلة «كل خارجي داخلي» في لبنان، أبعاداً خطيرة لم تختبرها التشكيلة اللبنانية سابقاً، ولم تعرف مثلها في أيام حروبها الأهلية. وفق النسخة النضالية الإسلامية هذه، أعاد اللبنانيون ترتيب صفوفهم، وبالتزامن استعيدت اللغة الاتهامية داخلياً وخارجياً، وما كان موضع تبديل وإعادة نظر، هو الخطاب التصنيفي والتوصيفي، الذي كان يسارياً وقومياً فصار إسلامياً ومذهبياً. في هذا السياق، غابت المفردات الرجعية والطبقية والإمبريالية والتخلف… ونجت من الغياب مفردة التخوين، وإليها أضافت الجعبة «الفكرية» المذهبية الحديثة، مفردة التكفير وتهمة الإرهاب، هذا الخطر الذي بات على «مذهب» واحد، بعد أن انتمت مذاهب أخرى إلى «التحرير والاستنارة والتنوير». لبنان الذي كان بيئة خصبة لاستنبات اللغة وضدها، استعاد دوره البيئوي التخصيبي هذا، فكان جنى التشكيلة اللبنانية التوزع على انحيازات، وكان أن أصيبت العروبة اللبنانية بجراح أثخنتها، عندما صار ممكناً توجيه الشتم السياسي العلني الذي يسوقه فريق مذهبي لبناني ضد فريق مذهبي آخر، في الداخل وفي الخارج. كان من البديهي أن تهتز سياسة النأي عن المحاور لتصير انخراطاً موزعاً ومتنقلاً، وكان من طبيعة الانخراط المنحاز أن تتعثر مسيرة العافية اللبنانية على الصعد الشعبية والسياسية والمؤسساتية كافة.

ما يحاوله الحكم اللبناني الحالي، ومن موقع رئاسة الجمهورية، يتلخص في سياسة إعادة شرح الظروف اللبنانية القاهرة، من دون ادعاء القدرة على مواجهتها، ولعله من المشكوك به، أو من خارج السياق الممكن، حديث رئيس الجمهورية أو سواه عن وعود يقطعها لغيره، تقضي بالتخفيف من الأعباء التي وسمت العروبة اللبنانية بميسمها في العقود الأخيرة. لعل الأقرب إلى الواقع هو إعلان حدود القدرة اللبنانية، وطلب تفهم الضرورات الداخلية ومراعاة توازناتها القلقة. هذا الشرح يلامس إعلان «العجز» السياسي، وهو إذا كان سياسة داخلية. محلية، فإنه لا يكون، أو لا يمكن أن يكون، موضع قبول من جانب (السياسات الخارجية) عربية كانت أو غير عربية.

بناءً على ما تقدم، يجب القول أن لا قدرات سحرية يستطيعها «النظام» اللبناني من خلال رموزه ومسؤوليه، لذلك فإن على اللبنانيين المتعجلين ألا ينتظروا من الآخرين، عرباً وأجانب، أن يقرأوا السطور السياسية التبريرية ذاتها، في كتب اللبنانية السياسية ذاتها.

إذا كانت العروبة اللبنانية السابقة، موزعة بين داخل وخارج سابقاً، فإنها اليوم تخضع لضغط خارجي أكبر سببه تعرض ما كان للبنان من عمق عربي هادئ إلى هجمات قلقلة يؤازرها ويدافع عنها فريق من اللبنانيين، وينضم إلى صفوفها حيث تدعو الضرورة إلى المشاركة. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني بهدوء ومن دون مراهنة كبرى، أن على الحكم اللبناني أن ينقح نسخته العروبية اللبنانية مجدداً، بقلم الداخل، وأن يطلب من «مواطنيه» إعادة كتابة سطورهم، وأن يـحسنـوا تـدبيج خـطبهم وأن يـهذبوا لغاتهم المنفلته من عقال «أدب التخاطب» ويضبطوها.

مسألة إعادة تظهير العروبية اللبنانية ليست سهلة اليوم، لكن لا سبيل سواها إذا ما أراد الحكم اللبناني، ومن خلفه المواطنون، أن يستجيب من يقصدونهم من الأطراف العربية إلى دعوة تنقيح بياناتهم اللبنانية العربية. الجهد متبادل والدعوة إلى «الرأفة» اللغوية والسياسية منطلقها لبناني، والتفهم اللاحق للضرورات اللبنانية استجابة عربية مأمولة ومطلوبة، لكن من الداخل نبدأ، هذا إذا كان المرتجى تصحيح وتصويب اختلال ووجهة معادلة النأي اللبنانية.