IMLebanon

مخاطر هجرة المسيحيين من المشرق العربي

إذا كان المسيحيون قبل نحو قرن من الزمان يشكلون نحو 20% من سكان المنطقة، فإنهم اليوم لا يزيدون على 5%، وقد تتراجع نسبتهم أكثر من ذلك، كلما ارتفعت موجة الهجرة وازدادت معاناتهم وشعورهم بالاستلاب.

ومن المهم أن يدرك العرب كلهم، بغض النظر عن ديانتهم وطائفتهم، أنّ المشروع الرامي إلى تقسيم الكيانات العربية الراهنة وإقامة دويلات جديدة في المنطقة على أساس ديني ومذهبي وإثني، يتطلب الشروع أولاً في تهجير المسيحيين العرب، لما يعنيه ذلك على المستوى العالمي من «مشروعية« فكرة وجود دول على أساس ديني، كما هو المطلب الإسرائيلي حالياً من العالم كله، ومن العرب والفلسطينيين خصوصاً، بأن يحصل الاعتراف بإسرائيل كدولة دينية يهودية. 

إنّ فقدان التنوع الذي تميزت به المجتمعات المشرقية، من جراء الهجرة المسيحية، يعني: إعادة صياغة هذه المجتمعات على قاعدة اللون الواحد، الأمر الذي يؤدي الى استقواء التطرف من حيث هو رفض للآخر وإلغاء له، وانتعاش ثقافة الانغلاق على حساب ثقافة الانفتاح. مما يقدم رسالة مزدوجة إلى العالم مفادها: إنّ الشرق يضيق ببعض أهله، وأنه يختنق بالتنوع والتعدد. وأنّ المسلمين في الغرب قد يحملون معهم هذه الثقافة بمضمونها الرافض للآخر، مما يعني أنهم غير قابلين للتكيُّف مع مجتمعاتهم الجديدة والاندماج فيها، مما يشكل قنبلة اجتماعية موقوتة. ومن شأن هذه الرسالة أن تصب المزيد من الزيت على نار ظاهرة «الإسلاموفوبيا« المشتعلة أصلاً، والتي تستمد قوتها التدميرية من الجهل والكراهية من جهة أولى، ومن سوء رد فعل بعض المتطرفين المسلمين من جهة ثانية. 

إنّ تجديد دور المسيحيين العرب، فى الواقع والمستقبل، يتطلب بناء دولة القانون، وضرورة العمل على نشر ثقافة المواطنة وتدعيم مناخ الثقة المتبادلة والتنبُّه لمحاذير الاستغلال الخارجي، مع تأكيد أهمية النضال الحياتي المشترك للمسيحيين العرب مع المسلمين وكافة أبناء الوطن الواحد من أجل احترام كافة الحقوق، وفي مقدمتها حقوق المواطنة.

فأن يقال إننا نريد دولة المواطنة يعني بالضرورة العمل لتكون كل الانتماءات ما قبل الوطنية، سواء العشائرية أم الطائفية أم الإثنية، هي الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن الديموقراطي، وهذه النتيجة لن تكون حاسمة ومؤكدة إلا عبر دولة مواطنة تقنع كل فرد بأنّ حقه مصان ومتساوٍ مع الآخر، وأنّ ليس ثمة من يستطيع التعدّي عليه كائناً من كان. واستدراكاً، نقول إنّ دولة المواطنة هي أحد أهم معالم ربيع الثورات العربية المناهض للاستنقاع والاستبداد، والمطالب بالحرية والكرامة.

وإذا كانت المواطنة، التي تعاني تراجعاً، تمثل حلاً منشوداً لمشكلة تفاقم الهويات الفرعية في الواقع العربي المعاش، فقد يكون تعزيزها مقدمة في الوقت نفسه لحل مشكلة الهوية في علاقتها بالآخر في العالم، وفي الغرب بصفة خاصة. باعتبارها ترتبط بثقافة مدنية تقوم على التسامح تجاه الآخر (كل آخر) والحوار معه والبحث عن المشتركات ونبذ التطرف والتعصب. ومن شأن انتشار هذه الثقافة في المجتمعات العربية تجاوز الصدام على خلفية دينية ومذهبية وعرقية في الداخل، ووضع حد للصدام مع الهويات الأخرى في الخارج.

وهكذا يبدو أننا أمام واحد من خيارين: إما الانفصال، أي تفتيت هذه المنطقة إلى كيانات متناحرة، أو تدشين رحلة الخروج من هذه المصيدة نحو تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الحكم الدستوري والمساواة والحريات والديموقراطية، وفي رأس هذه الحريات حرية المعتقد وحرية الرأي وحرية التفكير، وحق كل جماعة أو مجموعة في تطوير ثقافتها بالطريقة التي تراها ملائمة لها، بشرط عدم الاخلال بالعقد الاجتماعي المشمول بالقبول الحر لجميع المواطنين الأحرار. 

في النظر إلى المستقبل تبرز في الأفق العربي المسدود ومضة أمل مثلى تتجلّى بإيمان أكثرية العرب – مسلمين ومسيحيين – بضرورة الإبقاء على الحياة المشتركة، التي لن تؤثر فيها ممارسات أقلية موتورة، طاولت جرائمها أرواح المسلمين المسالمين قبل غيرهم. وفي هذا المجال يتوجب تكريس أجواء الاختلاف ضمن الوحدة، وتعزيز الحوار المشترك وقيم الاعتراف الواقعي المتبادل، وتغليب المساواة التي تنبذ ما يباعد، والتي تمكِّن المسيحيين العرب من القبض على أعنّة مصيرهم وعلى تحقيق مواطنيتهم، الذي أعطى لهذا الفضاء المشرقي التعددي، قيمته الفعلية.

ومع أنّ غالبية المسيحيين العرب ينادون بالعلمانية، فإنهم يدركون أنّ العالم العربي لا يستطيع الإقبال على مثل هذا الخيار الحضاري ما لم يُقبِل إقبالاً رضيّاً على تأويل النص والتراث تأويلاً خلاّقاً يستصفي فيه أبعاد القيمة الروحية الرفيعة التي يرنو إليها الإنسان العربي في نضاله الفكري والاجتماعي والسياسي. وحده مثل هذا التأويل خليقٌ بتغيير معرفي بنيوي في العقل العربي والذهنية العربية والفعل العربي. 

وعلى عكس ما يصوره المشرّعون القروسطيون، لا تتناقض العلمانية مع الأديان بوصفها أدياناً، لكنها تتناقض مع إرادة سيطرة إحدى الإثنيات أو الأديان على النظام الاجتماعي والسياسي، وفرض نظرة إليها على طريقة تفكير المواطنين، الأمر الذي ينمِّي السعار الديني والانكفاء على الذات لدى المحكومين من قبل النظام المهيمن. حيث تمارس الدولة العلمانية دورها بصفتها سلطة مدنية تبرز كل ما يوحد مواطنيها مستفيدة من التنوع والاختلاف، كما يتعلم كل فردٍ كيف يحيا قناعاته الخاصة محافظاً على مسافة كافية عنها تخوّله إقصاء التعصب الأعمى وعدم التسامح، فتحقق العلمانية بذلك توحيد الناس ضمن الدولة. 

بالنسبة إلى الحالة العربية، فإنّ بناء الدولة الديمقراطية العلمانية، التي توفر للجميع المساواة الحقوقية، من شأنه تخطِّي الانتماءات الطائفية والمذهبية، وبالتالي تحويل الناس إلى مواطنين، والكف عن التعامل معهم كرعايا، على النحو الذي يصبحون فيه مشاركين فعليين في الحياة العامة بما يفتح آفاقاً أرحب للتطور الاجتماعي. أما إذا تأخر هذا الحل فإنّ تشظّي الكيانات الحالية قد يصبح قدراً لا فكاك منه، بعد توغّلها في سراديب الاحتراب والاقتتال والتدمير الذاتي.