IMLebanon

الفاتيكان يرسم حكاية لبنان منذ ٤٠ عاما

حكومات تتعاقب على مدى أجيال وتترك آثارها مستمرة

الفاتيكان يرسم حكاية لبنان منذ ٤٠ عاما

و٤٨ ساعة تقرر مصير الوطن الجديد!!

بين فرحة اللبنانيين، بالحفاوة التي استقبل بها البابا فرنسيس، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والاستياء اللبناني العام، من فرض ضرائب عليهم لتمويل سلسلة الرتب والرواتب، برزت الحقيقة المرّة: شعب تجتاحه الضرائب، وخزينة خاوية، وخوف شامل من الافلاس.

والعنوان البارز: جمهورية يهدّد نظامها السياسي السقوط حينا، والانحدار من الأمجاد العامرة، الى الأيام الواقعة في حضيض العثرات المادية.

قبل أن يعود الرئيس العماد عون الى لبنان. أواخر الأسبوع الفائت، مع عائلته والأصهار، كان وزير خارجية لبنان جبران باسيل، يقول لمن كانوا حوله: لا تخافوا على لبنان، فالله يحبّه، وقداسة الحبر الأعظم يعشقه، والأعتاب الرسولية تحتضنه في الملمات وتحرسه.

كان المستشار الرئاسي رفيق شلالا يسير الى جانب الموكب الرئاسي، الذي يضم رئيس الجمهورية وبابا روما ويردّد ان معظم البابوات أحبّوا لبنان، وهو، أي المستشار الرئاسي، سبق له وزار الفاتيكان مع عدد من الرؤساء يقول ان الله سبحانه وتعالى، يعتبر لبنان جزءا من الفاتيكان ويمحضه المحبة والعناية، ويعتبره البلد الأحبّ على الكرسي الرسولي.

والرئيس حسين الحسيني أول رئيس مجلس نيابي يزور الأعتاب الرسولية عدة مرات، وكما ان الحبر الأعظم يكنّ للعماد عون المحبة والتقدير كان سلفه القديس يوحنا يكنّ أيضا لرئيس مجلس النواب السابق المحبة نفسها، ويحفظ له التقدير ذاته، لأن العاطفة الفاتيكانية الآن، في موازاة العاطفة البابوية للبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، وللبطريرك الحالي الراعي الذي يمحض الرئيس عون المحبة الجليلة في كتاب الكرادلة الذين تبوّأوا الكرسي الماروني تباعا.

ويقول وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، وهو يغادر الأعتاب الرسولية: لمن كانوا حوله: لبنان باقٍ في خير وسلام. الكرادلة يستمدون واقعهم من أصحاب القداسة، ولا أحد يتردد في الولاء والورع والمحبة لمن أعطاهم الله مجد البيعة والاكرام، ولا أحد يتأخر أيضا في احتساب المجد الذي يجلّل أصحاب النيافة.

عندما جلس قداسة البابا، على المقعد نفسه الذي استوى عليه أسلافه، قال لرئيس الجمهورية العماد عون، ان للبنان مكانة خاصة لدى الكرسي الرسولي، وأعرب عن سروره لاستعادة لبنان عافيته، وانتظام المؤسسات الدستورية.

وكرر الحبر الأعظم سعادته لوجود العماد عون في الفاتيكان: منذ انتخابكم رئيسا للبلد الذي نحبّ، بات الاطمئنان راسخا في القلوب والنفوس، لأن لبنان بجميع أبنائه عاش قيم الأصالة القائمة على الاحترام المتبادل، والسعي الى تحقيق السلام بين الطوائف والمذاهب.

وأكد البابا فرنسيس أيضا للوفد المرافق لرئيس الجمهورية انه يصلّي دائما من أجل لبنان، ويعمل من أجل دوام استقراره، وانه سيزوره ويلتقي أبناءه جميعا.

وشكر الرئيس ميشال عون قداسة البابا على استقباله، ومحبته الكبيرة للبنان، وعرض معه الوضع في الشرق الأوسط عموما، وأوضاع المسيحيين في سوريا وفلسطين والعراق خصوصا، والعمل الذي يقوده لبنان لمواجهة الارهاب، لافتا ان اللبنانيين مسيحيين ومسلمين موحّدون في التعاطي مع هذا الخطر.

وقدّم رئيس الجمهورية الى الحبر الأعظم تمثالا للطفل يسوع، مرتديا زيا حبريا بلباس العلم اللبناني، هو نتاج تنفيذ مشترك لراهبات الكرمل، في حريصا وكفرمسحون.

في حين قدم قداسة البابا الى الرئيس اللبناني وزوجته مجسما لغصن زيتون رمز السلام، وثلاثة كتب كان أصدرها وهو على رأس الكنيسة.

بعد ذلك التقى العماد عون أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، وبحث معه الأوضاع في لبنان والشرق الأوسط، بحضور وزير الخارجية جبران باسيل، ونظيره البابوي المونسنيور بول غلافير والمستشار الاعلامي لرئيس الجمهورية جان عزيز ومدير مكتب الاعلام في الرئاسة اللبنانية رفيق شلالا.

وشدّد العماد عون على أهمية الدور المسيحي الجامع في المحيط العربي والعالم وتناول اللقاء أوضاع النازحين السوريين والانعكاسات التي تترتب على وجودهم في لبنان.

البدايات قبل النهائيات

في مطلع الثمانينات اختار رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميّل الرئيس حسين الحسيني ليكون رئيسا لمجلس النواب، خلفا للرئيس كامل الأسعد الذي حرص على مجيء الرئيس الجديد خلفا لشقيقه الرئيس بشير الجميّل الذي أغتيل في مقر قيادته الكائن في الأشرفية مع عدد من نجوم ادارته الجديدة.

لم يمرّ هذا الاختيار مرور الكرام، ذلك ان اثنين من خطباء البرلمان اللبناني الأستاذ لويس أبو شرف والأستاذ ادمون رزق الذي رشح الرئيس أمين الجميّل في خطاب وداع الرئيس بشير، ابتعدا عن الحزب الذي أعطياه أجمل الخطابات وأكثرها بلاغة.

كان همّ الرئيس حسين الحسيني ان يذهب الى الفاتيكان ويزرع له سمعة عطرة في الأعتاب الرسولية تمهّد لحلف مسيحي – اسلامي على نطاق واسع. وساعده في ذلك الكاردينال صفير الذي كان يتردد بصورة مستمرة على الأعتاب الرسولية، ويقيم في مقر خاص للبطريرك الماروني، في العاصمة الايطالية.

واستطاع الرئيس حسين الحسيني، ان يمهّد لدور أحب أن يمثله في عهد الرئيس الشيخ أمين الجميّل الذي كان همّه الأساسي ترميم العلاقة المقطوعة بين اهدن وبكفيا، بعد اغتيال النائب والوزير طوني فرنجيه وزوجته وطفلته فجر ذات يوم على أبواب الصيف.

وقد استعان الرئيس امين الجميل بوجوه مستقلة، تربطها علائق به وبالرئيس فرنجيه، مهّدت لطيّ الموضوع، خصوصا وان اجتماعات حصلت لاحقا بين الرئيس الجميّل والرئيس فرنجيه في منزل المرحوم يوسف ضو في البترون، أو فيالمدينة الكشفية في وسط القضاء.

كان همّ الرئيس فرنجيه، ان يعمد الى إلغاء اتفاق ١٧ أيار الذي مهّد له الموفد الأميركي فيليب حبيب، وكان همّ الرئيس الأميركي رونالد ريغان ان تخرج سوريا واسرائيل من لبنان، إلاّ أن الأمور تعثرت واستدعى الرئيس الأميركي سبعة وزراء خارجية عربا الى البيت الأبيض أبرزهم كان الأمير سعود الفيصل ونائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، إلاّ أن هذا الأخير طالب الرئيس ريغان بأن تنسحب اسرائيل بادئ الأمر، إلاّ أن سيّد البيت الأبيض، ضرب بيده على الطاولة، وطلب انسحابا متزامنا من قبل سوريا واسرائيل، لكن الأمر سار أدراج الرياح.

يروي الرئيس حسين الحسيني انه كان في الطائرة التي أقلته الى الفاتيكان مع مستشاره المرحوم أحمد قبيسي، ان طالبات كنّ على متن الطائرة نفسها هنّ كريمة القاضي موريس خوّام والثانية من آل خوري والثالثة من آل أميوني، وان احداهن سألت الرئيس الحسيني عن سرّ ذهابه الى الفاتيكان.

وأجابها: أنا ذاهب الى الفاتيكان لأنني أعتقد بأن حاضرة الفاتيكان معنية بالمحافظة على المثل اللبناني، إذ ان الشعب اللبناني الواحد الذي يتنوّع في الاعتقاد الديني والمذهبي يجعل لبنان ثروة حضارية وانسانية عالمية، ويشكّل نموذجا فريدا لامتلاكه هذه الميزات، أي اننا نحن اللبنانيين قدمنا خدمة كبرى للفاتيكان، وبما اننا نمرّ في محنة قاسية منذ سنوات، فقد آن الأوان لكي تبذل حاضرة الفاتيكان امكاناتها الكبرى في سبيل انقاذ لبنان. ولهذا، نحن ذاهبون الى الحبر الأعظم، لنطالبه بحقنا لديه، ذلك ان الفاتيكان هو حصن للبنان ولكل اللبنانيين.

وسألتني احداهن: هل من الممكن كتابة ما سبق ان قلته لهن، وبادرت الى تدوينه ثم استكمل الحديث، وكانت مفاجأتي الكبرى عندما قالت احداهن: ألا تشعرون أنتم الكبار بالمسؤولية تجاهنا. نحن، الآن في العام ١٩٨٥، وصار عمري اثنتي عشرة سنة، وأنا لا أعرف طرابلس ولا بعلبك ولا بيت الدين ولا صيدا ولا صور، ولا أعرف حتى رأس بيروت.

ويقول الرئيس الحسيني ان تلك الكلمات هبطت عليه هبوط الصاعقة، لما تحمله من الظلم الذي كان يلحق بجيلها، وما يكتنف هذه الكلمات من تمسّك بوحدة الوطن.

عودة الى الوراء

كان الخوف يزداد على الوطن وعلى المواطن، بعد مرور ربع قرن على ذلك الحوار، اذ ان لبنان، بعد معاناة قاسية يعود الى نقطة الصفر بسبب الأزمة التي تعصف في البلاد.

لماذا لم يستطع اللبنانيون بعد عودة الرئيس ميشال عون من الفاتيكان، وعقب اصرار الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، على جمع اللبنانيين في بوتقة الوفاق السياسي، والاتفاق على مشروع قانون جديد للانتخابات، وقد شارفت المهلة على نهايتها، وان وزير الداخلية نهاد المشنوق أحال الى رئيس مجلس الوزراء موعدا للانتخابات النيابية، وان هذا الأخير رفع القرار الى رئيس الجمهورية، وان الرئيس ميشال عون يرفض التوقيع عليه، لأنه قال صراحة في خطاب القسم ان اتفاق الستين قد مات، ليحض النواب على الاتفاق على قانون جديد.

وتبدو البلاد أمام أزمة مثلثة: لا قانون إلاّ قانون الستين.

ولا قبول بقانون الستين.

ولا لمخرج في المهلة الباقية بوضع مشروع جديد.

هل يصار الى اتفاق جديد، مؤلف من قانون مختلط من المشروع النسبي والقانون الأكثري.

وهل أصبح النظام السياسي في خطر، وانه أضحى على شفير هاوية، لأن اقرار سلسلة الرتب والرواتب، هي مشكلة صعبة ومعقّدة مثل ايجاد قانون انتخابي جديد؟

هل يصار الى اقرار اتفاق الوزير جبران باسيل، بجعل الضرائب لتغطية السلسلة ثمانين في المائة، من الأغنياء والموسرين، وعشرين في المائة من الشعب والفقراء والموظفين الصغار؟

هل تعود الأزمة الى الشارع، ويعود المواطنون الى المطالبة برفع الضرائب لاقرار الموازنة، بعد ١٢ عاما من الغياب؟

واذا ما رضخت الحكومة للشارع الغاضب، وأحجمت عن أي زيادة في الضرائب، هل يُصبح لبنان دولة بلا سلطة وبلا ميزانية وبلا مواجهة الكوارث الاقتصادية بالحدّ الأدنى من الضرائب.

يبدو لبنان في مطلع العام الجديد، أمام كارثة اقتصادية من نوع جديد.

وهل يعقل ان يصرف المواطنون النظر، عن اقرار الموازنة الجديدة بعد ٤٨ ساعة، دقيقة، يتوقف عليها مصير البلاد والعباد ويتوقف عندها المصير الاقتصادي والسياسي.

يوم الأربعاء هو يوم مفصلي صعب، ولا أحد يمكنه أن يتكهن بما ستواجهه البلاد من مصائب صعبة ومستقبل غامض.

وقف ذات يوم الأستاذ نصري المعلوف، بقامته المديدة أمام مجموعة من زملائه النواب وقال لهم: أنا كبرت في السياسة عندما اختارني الرئيس كميل شمعون وزيرا للمالية في حقبة الخمسينات. معظم الوزراء كانوا يعتبرون توزيري خدمة شخصية، ولكنهم عندما سمعوني أقول لا لرئيس الجمهورية، وأرفض ما يريد منّي فعله وتنفيذه بادرني وزير ثان بعبارة لاذعة: عيّنك، فخامة الرئيس وزيرا، وتجادله، وتعارض ما يطلبه منك.

ورددت عليه: هو طلب تنفيذ ما يريد، وأنا لا أنفّذ إلاّ ما يسمح به القانون، وفخامته يحترمني، ويحبني عندما أرفض تنفيذ ما يتعارض مع القانون، لأنه اختارني وزيرا لأنني محام، ،المحامي، هو محام أولا عن القانون، ومحام ثانيا عن الوطن، ومحام ثالثا عن الدولة.

وعندما أحقق هذه الأمور، أكون قد نفذت ما هو من بنات أفكار دولة القانون.

في آخر أيامه، غادر نصري المعلوف لبنان، الى بلد عربي ولم يعد إلاّ جثة هامدة.

يومئذ، اجتمع نفر من المحامين في قصر العدل، وقالوا انهم خسروا في رحيل نصري المعلوف، لا وزيرا ثاقب النظرة، بل خسروا المحامي الذي يذود عن الحق، ويترافع يوميا، وزيرا وسياسيا في محراب دولة القانون.

وهذه هي ميزة المحامي الذي يصعد الى السلطة، ويبقى رمزا للسلطة العادلة.

ثمة سؤال يدور في الآفاق: هل تسلم الدولة من الانهيار أمام الصراع القائم بين الموالاة والمعارضة.

كان الوزير ريمون اده وزيرا في الحكومة الرباعية، في تشرين الأول ١٩٥٨ الى جانب الرئيس رشيد كرامي والرئيس حسين العويني والشيخ بيار الجميّل.

بعد انتهاء الظروف الاستثنائية، وبعد اعدام التكميل قدّم استقالته ومضى الى بيته.

وبادر الرئيس فؤاد شهاب بأنه يحبّه ويحترمه، لكنه لا يحب أن يرى عسكريا في السلطة.

وعقب شهاب بقوله: كلانا، كان في الحكم، رغما عنه.

في عهد الرئيس سليمان فرنجيه عيّن الأستاذ فواد نفاع وزيرا للخارجية في حكومة تقي الدين الصلح.

وصودف ان التقى وجها لوجه مع وزير التصميم العام حسن الرفاعي، فبادره بأن كلا منهما يعمل عند ربّ عمل واحد هو لبنان.

وعقب الرفاعي بأن المحاماة تجمع، ولكن الاجتهاد في القانون هو مدرسة أخرى.

وردّ الوزير نفاع بأن الذود عن الحق هو الجامع الأصيل بين الجميع وانصرف من ثم الى كتاب القانون، لأنه يخاف أن يهيمن عليه كتاب آخر هو السياسة في الاجتهادات القانونية.

في العام ١٩٧٥، عيّن الأستاذ جورج سكاف وزيرا للمالية وللاقتصاد، وكان تعيينه مؤشرا الى ذهنية جديدة في السياسة اللبنانية، لأن صاحب جريدة الجريدة جعل من الذهنية المتحررة من أي قيد، مبادرة تسري على روّاد الحكم في غياب أهل الحكم.

ولعل المدارس التي أسسها جورج سكاف في السلطة، جعلت لبنان ينتهج أسلوبا راقيا في ممارسة المسؤوليات، وهذا ما جعله على مدى سنوات، مثالا للحاكم المتجرّد من أي غرض.