IMLebanon

التفكير في زمن التكفير: من قتل ناهض حتّر على أدراج قصر العدل!

فعلتها الظلامية إذاً! الظلامية وكل من وما يقف خلفها، أو يختبئ وراء قناعها… هكذا إذاً، التهديدات وتحليل الدم والدعوات الى القتل وجدت طريقها إلى التنفيذ، بعد هستيريا مواقع التواصل الاجتماعي منذ أواخر الشهر الماضي، وتصريحات سياسية ملتبسة سمعناها في الأردن… رصاصات قليلة، أطلقها قاتل ملتح بائس حشي رأسه بفهم مشوّه للدنيا والآخرة، فتهاوى زميلنا الكاتب والمناضل الأردني ناهض حتّر (١٩٦٠ ــ ٢٠١٦) في عمّان، على درجات قصر العدل: هذا المكان الرمزي الذي يفترض أن يجسد العدالة والحق ودولة القانون والديمقراطية والسلم الأهلي.

أما التهمة، فلا تختلف كثيراً عن تلك التي وجّهتها الغوغاء الغارقة في اليأس والقهر والأمية، إلى الكاتب فرج فودة (١٩٤٥-١٩٩٢)، وان في ظروف سياسية مختلفة ومرحلة مختلفة وعلى خلفية نقاش فكري من نوع آخر. القاتل واحد، والجريمة واحدة، رغم أن ربع قرن يفصل بين اغتيال الليبرالي المصري في القاهرة، واليساري الأردني الممانع في عمّان. إنه «التفكير في زمن التكفير» بتعبير نصر حامد أبو زيد، المفكر الراحل الذي ذاق بدوره طعم الاضطهاد والتنكيل بسبب أفكاره النقدية والتنويرية.

«جريمة» ناهض حتر؟ رسمة أعاد نشرها على فايسبوك، ما زال الرعاع يظنّ أنه مؤلفها، حتى بعد الفجيعة. رسمة لا تلمع بأسلوبها الإبداعي ربما، ولعلها غير موفقة بمقاربتها الساخرة، لكنها رسمة في نهاية الأمر! رسمة كاريكاتورية تهزأ من «الدواعش» وتفضح استغلالهم للدين الذي لا يؤمنون به في العمق، بل يزدرونه ويخالفون تعاليمه! وفي الرسمة يظهر وجه رمزي لما سمّاه ناهض في تعليقه «رب الدواعش»، مؤكداً ألا علاقة لهذا الوجه، من وجهة نظره، بالذات الإلهيّة. لكن العقل الانحطاطي المقهور والمسحول، لا يعرف الفرق بين المجاز والحقيقة، بين المظهر السطحي والخطاب الفعلي، بين المولى عز وجل وما يمكن أن تكونه تمثلات عقل مريض ومخيلة مبتورة لكائن رمزي لا يشبه الله ولا يمثله ولا يحيل إليه. بكل الاحوال، كان مكان هذا النقاش النظري في الأكاديميات والحلقات الفكرية والفقهية وفوق المنابر الاعلامية، لا في المحاكم. وقد أوضح ناهض حتّر خلفيته ومقصده في بيان، وإثباتاً لحسن نيته تراجع عن نشر الرسمة، واعتذر من المؤمنين الذين أساؤوا فهمها، ووجّه أصبع الاتهام في الحملة ضدّه الى الدواعش الفعليين الذين انزعجوا من تصوير وجههم الحقيقي! بعد ذلك اتهمه القضاء بـ«التعرض للذات الإلهية» كما هو معروف، وبقي شهراً خلف القضبان، قبل أن يطلق سراحه بكفالة. وكان صباح أمس متوجهاً لحضور جلسة استكمال محاكمته… لكن يداً آثمة قررت غير ذلك.

ناهض كان جريئاً وسجاليّاً ولا يتوانى عن تحريك المبضع داخل جراحنا الجماعية

لا شك في أن اغتيال ناهض حتر، هذا المثقف الإشكالي، المثير للجدل حتّى داخل أسرة تحرير جريدة «الأخبار» التي احتضنته لسنوات عدّة، هو ضربة فظيعة للحرية في العالم العربي من المحيط إلى الخليج: حرية الإبداع والنقاش والتفكير، والحق في الاختلاف الذي تضيق به أنظمتنا الاستبدادية، وأنماط انحطاطية متحجّرة نبتت في مستنقع الوهابية، وتضاعف تأثيرها بفعل كابوس «الربيع العربي» المسروق. ناهض كان جريئاً وسجاليّاً ولا يتوانى عن تحريك المبضع داخل جراحنا الجماعية. كثيرون اختلفوا معه على مسائل أساسية. وصداميته أنتجت له عداوات وخصومات. وهناك بين أصدقائه من أخذ عليه أحياناً زلات مبدئية وتهوراً وإسرافاً لا تليق بمناضل يساري. لكنه لم يتعب من العراك والتفكير، ولم يتراجع عن المواجهة، بل بقي الى النهاية متمسّكاً بخياراته اليسارية والقومية، وبدفاعه عن محور المقاومة في وجه العدو الاسرائيلي وأدواته العربية، من رجعية وتكفيريّة وتخلف فكري وسياسي واجتماعي.

لقد اغتالوا ناهض حتّر! القاتل أو القتلة المباشرون هم نتاج آلة ضخمة ممنهجة لإنتاج العنف والتطرف. لكن من وراءهم؟ لا يسعنا اليوم سوى أن نحمّل السلطة الأردنية مسؤولية اغتياله، لأنها قبلت بمحاكمته بدلاً من الدفاع عن حريته وحقه في التعبير، مسبغة صفة الشرعية على تجريم الإبداع والتعبير عن الرأي. السلطة الأردنية مسؤولة، لأنها لم تؤمّن حمايته الأمنية، رغم كل التهديدات التي تلقّاها في العلن، ولعل المخابرات تعرف طبيعتها ومطلقيها ودوافعها وخلفياتها جيداً! السلطة الأردنية تحمل دم ناهض حتّر، لأنها تركته يُقتل في وضح النهار، وكان أبسط الأمور أن تؤمن له حماية، على الأقل يوم محاكمته، على الأقل أمام قصر العدل. ويمكن أن نمضي أكثر في الفرضيات، لحظة توق السلطة في الأردن الى مصالحة الإخوان… ومع تمسك النظام الأردني بخطّه المتخاذل في خدمة المصلحة الاستعمارية، ما يجعل من ناهض حتّر بخياراته السياسية الواضحة، صوتاً مزعجاً أكثر من أي وقت مضى. في كل الأحوال، من منّا لا يعرف أن وباء التكفير لا يتفشّى إلا في ظل أنظمة الفساد، والقمع، والأميّة، والبؤس، والتبعية لمصالح الاستعمار، وغياب العدالة، والاستبداد السياسي؟