IMLebanon

نحو سياسة نفطية لبنانية متكاملة

بدأ الاهتمام بالملف النفطي في لبنان في اوائل القرن الماضي وتكثف في زمن الانتداب الفرنسي، وكانت تسري عليه القوانين الفرنسية بوصفه مستعمرة فرنسية، وكان النظام المعمول به اساسا هو نظام الامتيازات للبر والبحر اللبناني.

في العام 1975، الذي يرتبط ذكره بتاريخ اندلاع الحرب الأهلية، عمد المشترع اللبناني الى تحديث الإطار القانوني للأنشطة البترولية متبنيا نظام عقود تشارك الانتاج بين الدولة والشركات البترولية، وأطلق، لهذه الغاية، دورة تراخيص لجذب الشركات العالمية للتنقيب في البحر اللبناني في تموز، فكان أن تأجلت هذه الدورة مرات عدة وبعدها ألغيت نهائيا.

ساد الصمت عقودا من الزمن في عالم استخراج النفط في لبنان حتى اوائل التسعينيات، وذلك بعدما جرى تكثيف الانشطة البترولية في حوض النيل الجيولوجي في مياه مصر والقسم الفلسطيني من حوض المشرق، فجاءت النتائج مشجع وبالامكان استقراؤها على جيولوجية المياه اللبنانية. لاحقا، جرى الاستكشاف الجيوفيزيائي الثلاثي الابعاد لـ 70 في المئة من مساحة المياه اللبنانية. واصدرت الإدارة اللبنانية قانونا جديدا لادارة الموارد البترولية في المياه اللبنانية في العام 2010، وأُنشأت «هيئة ادارة قطاع البترول» في العام 2012، وتم بعد ذلك تأهيل شركات عالمية ومحلية للمشاركة في دورة التراخيص الاولى التي تم تأجيلها مرات عدة، حوالي 3 سنوات، كما في دورة 1975، وذلك لعدم اقرار مرسوم تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة ومرسوم اتفاق تقاسم الانتاج.

لكن ما يلفت النظر، مقارنة بالبلدان المتطورة وحتى النامية، أن لبنان اختار الانطلاق والسير بالاستكشاف والانتاج من دون سياسة نفطية (ENERGY POLICY) ذات اهداف اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية واضحة.

لدى إلقاء نظرة سريعة على ادارة شؤون الطاقة في اي بلد غير منتج، نرى في رأس هرم ادارة قطاعات الطاقة او النفط، سياسة للطاقة لثلاثين عامًا ذات اهداف محددة مرفقة بخريطة طريق، ونرى أنه في بعض البلدان تكون هذه السياسة مرفقة ببرنامج عمل موسع وتتم المصادقة عليها من ممثلي الشعب: جمعيات عامة أو مجالس نيابية.

إن نوعية اهداف سياسة الطاقة هي التي تحدد بدقة نوعية الحوكمة والمسؤوليات وتوزيع الادوار بين مؤسسات الادارة العامة كما طرق الإدارة اليومية. فالمعادلة تعتمد على مبدأ متين وبسيط: مصادر الطاقة الاحفورية غير متجددة، فأي خطأ في حوكمة الانشطة يؤدي الى ضياع الثروات نهائيا والعبث بالمجتمع وضعضعة اقتصاديات الاجيال الطالعة. ويتوجب اعطاء أهمية قصوى في هذه السياسة للرقع الجنوبية الملامسة لحدود فلسطين المحتلة لسببين:

– لكون الاسرائيلي اكتشف النفط ويعمل على تطوير الحقول الفلسطينية البعيدة كيلومترات عدة من الحدود اللبنانية، مما يرفع احتمال وجود النفط في مناطقنا القريبة من هذه الحقول.

– حماية موجوداتنا النفطية من أي عملية ضخ باتجاه المحطات الاسرائيلية العاملة في فلسطين المحتلة.

ويتوجب ثانياً أن تغطي أي سياسة نفطية متكاملة القطاعات كافة من التوزيع والمصافي أو ما يسمى «داون ستريم» الى التخزين والنقل أو ما يسمى «ميدستريم» الى الاستخراج والانتاج او ما يسمى «ابستريم».

ويتوجب ثالثا على السياسة النفطية معالجة التكوين المهني، البحث العلمي، ادارة العائدات والحوكمة والشفافية.

1 ـ الداونستريم:

– على اللبناني أن يستفيد من انخفاض اسعار النفط والغاز واستيراد الغاز الطبيعي اليوم قبل الغد، حيث ان سعره الجهوي قد انخفض الى أقل من الثلث، والعمل على استخدامه كسلعة اساسية لانتاج الكهرباء وكمواد خام لتطوير الصناعات البتروكيميائية القادرة على خلق وظائف عمل مستدامة ذات مستوى رفيع (يد عاملة ماهرة). يمكن ان نذكر من هذه الصناعات: وقود الميتانول، الاسمدة، المنظفات، المواد تحت الاسم الشائع بلاستيك كالاتيلان والبوليتيلان والاقمشة.

– تطوير المرافق البحرية لاستقبال الغاز السائل وتغويزه، كما يتوجب انشاء انابيب لايصال الغاز الى معامل الكهرباء والى المصانع البتروكيميائية، ولمَ لا الى المنازل.

– يعتــبر إلغاء المصـــافي البترولية في اواخـــر السبعينيات خطأ استراتيجـــيا كَبَّدَ ويكبد المواطن اللبــناني والاجيال الطــالعة قســما كبيرا من الدين العام.

لقد استورد لبنان ولا يزال المشتقات البترولية من مصافي جنوب اوروبا وفق الاسعار العالمية، علماً ان هذه المصافي تستورد النفط وفق اسعار «السبوت» التي لامست منذ سنة ونصف ربع السعر العلمي للنفط. وللتذكير فقط، فإن اسواق «السبوت» شرعية مئة في المئة وتطبق حاليا اكثر على الغاز الطبيعي المسال، فلو بقيت هذه المصافي وتم تأهيلها، لاستوردنا النفط الخام بأسعار «السبوت» ولاشترى المواطن اللبناني الوقود باسعار أقل او زادت مداخيل الدولة عبر الضرائب على الوقود وتم انتاج الكهرباء بكلفة اقل كون الوقود اقل سعرا.

ان انشاء مصافٍ يعتبر حجر الزاوية ليس فقط لخفض اسعار الوقود او الاستفادة من الضرائب، لكن لتأمين الاستقلال الوقودي للبنان.

2ـ «الميدستريم»: تخزين ونقل

من غير الطبيعي ألا نفكر بتخزين استراتيجي للنفط على اعتبار أن لبنان بلد غير منتج (حتى الن). فهذه اولوية يتوجب دراستها تقنيا لتحديد كيفية التخزين الاستراتيجي طويل الامد.

كيف يمكن للبنان أن يأخذ دورا على الخريطة الجهوية للنفط حتى لو لم يكن منتجا للنفط؟ في اوائل التسعينيات، فكرت احدى الشركات العالمية بانشاء مركز جهوي لتخزين الغاز الطبيعي المسال في لبنان لتصديره بعد ذلك بالمفرق الى السوق في شرق المتوسط. الا يجدر ان نفكر من جديد بهكذا مشروع؟ حاليا، يتم تسويق الغاز الطبيعي المسال من تركيا، وقبلها من مصر. فلم لا نفكر بدراسة جدوى حقيقية لمشروع كهذا؟

اما في ما يخص النقل، فربط مرافئ استقبال الغاز الطبيعي المسال بمعامل الكهرباء وبالمصانع يعتبر اولية قصوى. يتبع ذلك دراســة الجدوى الاقتصادية والاجتــــماعية لمـــد انابيب غاز الى المدن، وربما القرى حتى.

3 ـ «الابستريم»: التنقيب والانتاج

اذا بدأ التنقيب اليوم، وتم التأكد من وجود النفط او الغاز بكميات تجارية في السنة القادمة، فسيبدأ الاستخراج بعد 7 الى 9 سنوات.

ان نظام التعاقد المعمول به حاليا هو نظام تقاسم الانتاج وفق قانون الموارد البترولية في المياه اللبنانية الصادر في العام 2010. يلحظ هذا القانون امكان مشاركة الدولة عبر حصة معينة في انشطة الاستكشاف والانتاج. كما يلحظ امكان انشاء شركة بترول وطنية اذا تم التأكد من وجود بترول في المياه اللبنانية بكميات تجارية.

تعتبر مساهمة الدولة بأنشطة التنقيب والانتاج منذ البداية عبر شركة وطنية مملوكة كاملة من الدولة أو شركة مساهمة مع الصوت المرجح للدولة عصب تطوير الصناعة البترولية من «الداون ستريم» الى «الابستريم». عكس ذلك يعتبر غير طبيعي، فالشركة الوطنية تخول لبنان السيطرة الكاملة على آليات التنقيب وتطوير الحقول والانتاج والتسويق العالمي، وتسمح بمراقبة الشركات العاملة في لبنان عن قرب. عند ذلك، يعتبر لبنان مشاركا في الانتاج كما يفرض قانون 2010 (وليس فقط مشاركا في الارباح كما هي الحال الآن).

من الضروري جدًا دراسة جدوى تطوير قانون 2010 ليأخذ بالاعتبار المعطيات الجيولوجية الحقيقية للنظر بامكانية لحظ انواع عدة من العقود مع الشركات المستثمرة، بما فيه الشركة الوطنية اللبنانية كالامتيازات او الخدمات على سبيل المثال، بالاضافة الى تقاسم الانتاج المعمول به الآن.

ومن خصائص صناعة «الابستريم» انها تجلب استثمارات ضخمة خلال مرحلة تطوير الحقول وبناء منشآت المعالجة والتصدير تتجاوز مليارات عدة من الدولارات. وتعمل الشركات الاجنبية على تشغيل آلاف العمال المهرة لفترة معينة تحدد وفق خطط التطوير. في مرحلة الانتاج، ينخفض عدد العمال الى بضعة مئات فقط. لكن وجود شركة وطنية (للدولة او رأسمال مختلط)، سيساعد على خلق وظائف عمل مستدامة ويساعد ايضا من خلال الارباح الداخلية والخارجية على زيادة الدخل.

4 ـ تحديد وتطوير مواقع المنشآت النفطية للتكرير والمعالجة والتصدير:

ان تحديد المواقع يخضع لعوامل عدة، أهمها توافر المساحات الشاسعة والمسافة من المكامن النفطية المنتجة. لكن الوضع في لبنان اسهل مما نتصور، فهناك اصلا مرفآن نفطيان ما زالا على خريطة النفط العالمية وهما طرابلس (موقع مصفاة شركة النفط العراقية) والزهراني (موقع مصفاة التابلاين/ارامكو السعودية). ان وجود مرفأين لاستقبال وتصدير النفط والغاز يعتبر كافيا لاستيراد الغاز والنفط حاليا في مرحلة ما قبل الانتاج وللتصدير لاحقا. ومن الضروري اطلاق الدراسات الهادفة الى التطوير السريع لهذه المرافق.

5 ـ البحث العلمي المتعلق بالطاقة:

برغم توافر المقدرات العلمية في لبنان، نجري الدراسات الاستراتيجية كالتحاليل الجيولوجية والجيوفيزيائية التي تحدد مقدرات الجمهورية اللبنانية المستقلة (النفط والغاز والمناجم) منذ العام 1943 حتى الآن خارج لبنان. في المقابل، ليست الحال هكذا في اسرائيل حيث معهد الجيوفيزياء الوطني هو من يقوم بتحاليل المعطيات الجيولوجية الناتجة من الاستكشافات في الاراضي والمياه الفلسطينية المحتلة. وليس هذا هو واقع الحال في روسيا أو ايطاليا او الجزائر حيث المعاهد الوطنية هي التي تقوم بهذه التحاليل وتبقى النتائج سرية ولا يتم تداولها بالإعلام.

ان انشاء معهد جيولوجي وطني لشؤون النفط على غرار البلدان المتطورة ضرورة ملحة مما يسمح للدولة وشركتها الوطنية بالاعتماد على رأي علمي مستقل غير متأثر بالسياسات النفطية الخارجية.

من ناحية أخرى، يتوجب انشاء مكتب وطني لاجراء الدراسات الاستراتيجية التي تخص تطوير الحقول والمنشآت من النواحي التقنية والاقتصادية والاجتماعية، مما يسمح للمسؤول اللبناني الحصول على استشارات مستقلة تماما عن مجموعات التأثير الدولية او تلك التابعة لشركات مهتمة بالاستثمار في لبنان.

بالطبع، تخضع هذه المعاهد للرقابة العلمية الدقيقة للتأكد من صدقية الاستشارة او النصيحة التي تسديها هذه المؤسسات العلمية للدولة اللبنانية.

وفي موازة ذلك، المطلوب حث الجامعات ومختبرات الابحاث اللبنانية على القيام بأبحاث تخص الطاقة والمناجم والبترول واعتبار ذلك هدفا لوضع لبنان من جديد على خريطة البحث العلمي العالمية.

6 ـ تطوير المهارات:

ما من شك ان لبنان يحتوي مهارات جمة في المجالات كافة. لكن من الضروري العمل على تطوير المناهج الجامعية والمهنية لكي تستطيع مواكبة حاجات صناعات الطاقة التي تتطور بسرعة فائقة. ان تطوير المناهج وإنشاء معاهد محلية لتكوين الشباب اللبناني في مجال الطاقة يسمح بالتقليل من الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية. ليس ذلك فقط، بل يسمح في تصدير هذه اليد العاملة الى الخارج وخاصة على يد الشركة الوطنية اللبنانية للبترول.

يضاف إلى ما سبق ضرورة انشاء شركة بترول وطنية لاستغلال المقدرات النفطية في لبنان، وتكون مهمتها القيام بنشاطات بترولية كتطوير المصافي ومراكز الغاز المسال كما النقل والتخزين والاستكشاف والاستخراج. ويمكن للشركة الوطنية التعاقد وفق القانون اللبناني مع شركة غير لبنانية للقيام بانشطة بترولية تخضع للرقابة العلمية الدقيقة، كما تخضع للرقابة الادارية والمالية التي تقوم بها الدولة اللبنانية مع مؤسساتها.

كما أن انضمام لبنان الى جمعيات عالمية خاصة بمكافحة الفساد لا يكفي لجعل قطاع النفط قطاعا نظيفا، إذ إن ما تحتاجه الصناعة النفطية، هو الدخول بتفاصيل اخذ القرار من التوصية الى التوقيع فالتطبيق، كما تحتاج الى الولوج بتفاصيل العمليات التقنية من التصاميم الاولية الى التنفيذ وعمليات ما بعد التنفيذ.

وللرقابة العلمية والتقنية مكان مهم في محاربة الفساد وخصوصا في رفع التوصيات التي يستند إليها لاتخاذ القرار الرسمي اللبناني كما مراقبة المشغلين.

فهل نعتمد في محاربة الفساد قانونا خاصا بالطاقة؟