IMLebanon

شفافية ناقصة: مصرف لبنان ينشر ميزانية 2015

قرّر مصرف لبنان أن يلجأ إلى الشفافية لمواجهة ادعاءات صندوق النقد الدولي له بوجود عجز في الأصول الأجنبية الصافية. نشر الميزانية كان منقطعاً طوال السنوات الماضية بصورة مخالفة للمادة 117 من قانون النقد والتسليف، وهناك حديث واسع عن كون هذه الميزانية المنشورة مخالفة للمادة نفسها التي تفرض تضمينها كل عمليات المصرف لا أجزاء منتقاة منها

بعد انقطاع دام سنوات، قرّر مصرف لبنان أن يطبّق المادة 117 من قانون النقد والتسليف التي توجب عليه نشر ميزانيته السنوية وتقريراً عن عملياته في عام 2015.

ما هو واضح ومفهوم في هذه الميزانية، هو أن مصرف لبنان سخّر الأدوات النقدية لتمويل الدين العام عبر قناة أساسية هي المصارف، وأنه عمل على تحفيز أرباح هذه القناة وعلى تحفيز نموّ القطاعات المرتبطة بها. نموذج رتّب أعباء كبيرة، عبرت عنها الربحية الهزيلة للمصرف المركزي التي بلغت 58.7 مليون دولار، ودخول البنك المركزي كمموّل أساسي للدين العام، ما فرض عليه تعقيم سيولة المصارف من خلال إصدار شهادات إيداع بالليرة وبالدولار بفوائد اعلى من سندات الخزينة. سلوك مصرف لبنان قد يكون اضطرارياً لدرء المخاطر النقدية، لكن الخبراء يعتقدون أنه بات سلوكا محفوفاً بالمخاطر.

شفافية ناقصة

النقص في الشفافية أثار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين طالبا مصرف لبنان بازالة الغموض عن ميزانيته وعملياته. وزادت حدّة الاشتباكات بين الطرفين، بعدما أنهى صندوق النقد الدولي التقويم المالي لوضعية مصرف لبنان، إذ تبيّن له أن الاصول الأجنبية الصافية باتت عاجزة، ما يعني أن ما يملكه مصرف لبنان من عملات أجنبية، أقل مما عليه. مصادر مصرف لبنان قالت لـ«الأخبار» ان هذه الأصول ليست عاجزة، بل النقص يقع في طريقة الاحتساب التي يقوم بها صندوق النقد الدولي ونحن نتفاوض معه على هذا الأمر… هذا النقاش لم ينته بعد، وإنما قرّر مصرف لبنان أن يظهر شفافيته إلى العلن، أي تطبيق المادة 117 من قانون النقد والتسليف التي توجب على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «أن يقدّم لوزير المال قبل 30 حزيران من كل سنة، الميزانية وحساب الارباح والخسائر عن السنة المنتهية وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها، على أن تنشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي».

هكذا ظهر “التقرير” في العدد الأخير من الجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 14/7/2016. لكن “الميزانية” المنشورة لم تظهر تماماً كما نصّت عليها المادة 117، إذ جاءت عمومية ومختصرة، حتى إنها أبسط من موازنة مصرف تجاري! يتضمن التقرير أقساماً؛ أولها يتعلق بالمشهد الاقتصادي العام، والثاني يتعلق بالإطار التنفيذي للسياسة النقدية بما يتضمنه من أهداف وأدوات وآليات. والثالث عن الإطار التنظيمي للسياسة النقدية، ثم الرابع عن إصدار النقد، والقسم الخامس المتعلق بقائمة المركز المالي بما فيه من مطلوبات وموجودات والأموال الخاصة وحساب الأرباح.

ورد في التقرير الكثير من «المدح بالذات»، فإنجازات مصرف لبنان تجعله «صمام الأمان» و«ميّزة» خلقت «حصانة نسبية» و«تكيفاً مرناً» في ضوء الاضطرابات الإقليمية وانعدام اليقين. شمل “المديح” المصارف، اذ إن «القطاع المصرفي أثبت جدارته رغم التحديات الضاغطة التي أثّرت سلباً في تقدمه»، متحدثاً عن مواصلة مصرف لبنان «التزامه توفير أسس النمو الاقتصادي من خلال استقرار سعر الصرف، وسعر الفائدة وصيانة استقرار القطاعين المالي والمصرفي، وإدارة السيولة، والمساهمة في إدارة الدين العام… وصولاً إلى زيادة الثروة الوطنية اللبنانية».

السيولة: وفرة وتعقيم

على أي حال، تبيّن، بحسب التقرير المنشور، أنه في 2015، سُجّل طلب على الدولار خلال شهر تشرين الثاني استنزف من احتياطات المركزي بالعملات الأجنبية 771 مليون دولار، إلا ان فائدة الانتربنك (الفائدة بين المصارف) كانت ثابتة بين 2.75% و3.25% (بحسب الاستحقاق) «ما يشير إلى وفرة السيولة في القطاع المصرف».

ودائع الحكومات

بلغت 68 مليون دولار أي إن الودائع السعودية والكويتية والإماراتية مسحوبة

السيولة الوفيرة تتطلب إدارة، وهي أحد مصادر تمويل الدولة. هذا ما كان يعمل مصرف لبنان عليه منذ سنوات. كان يمتصّ السيولة بواسطة إصدارات من شهادات الإيداع بالليرة وبالدولار، أي إنه كان يستدين مبالغ بالليرة وبالدولار من المصارف ثم يشتري (يكتتب) سندات خزينة (دين) تصدرها وزارة المال. في عام 2015، بلغت قيمة سندات الخزينة التي اكتتب بها مصرف لبنان 16265 مليار ليرة، فيما ارتفعت محفظة شهادات الإيداع بالليرة من 29675 مليار ليرة في نهاية 2014 إلى 34697 مليار ليرة في نهاية 2015، وارتفعت شهادات الإيداع بالدولار من 6559 مليون دولار إلى 9109 ملايين دولار. هذا يعني أن مصرف لبنان امتصّ نحو 5.8 مليارات دولار في عام 2015 وحدها.

لكن السؤال يبقى، لماذا هذه «اللفة»؟ لماذا لا تكتتب المصارف بسندات الخزينة التي تصدرها وزارة المال مباشرة؟ الإجابة تكمن في رفض المصارف زيادة حصتها من تمويل الدين العام، وفي أن «المركزي» يمنحها فوائد أعلى على شهادات الإيداع من تلك التي تحصل عليها من سندات الخزينة، وبالتالي فإن مصلحتها و«جدارتها» تكمنان في الأرباح الأكبر!

بحسب الجداول المرفقة في التقرير، يظهر ان لدى مصرف لبنان محفظة اسهم وسندات بقيمة 18 مليار دولار في نهاية 2015 مقارنة بـ 14 ملياراً في 2014، ولديه محفظة تسليفات بقيمة 5.3 مليارات دولار 95% منها مبالغ مسلّفة للمصارف. كذلك تشير الميزانية إلى أن ودائع الحكومات بلغت 68 مليون دولار، أي إن غالبية الودائع السعودية والكويتية والإماراتية التي كانت تبلغ قيمتها الإجمالية 1.5 مليار دولار، مسحوبة من مصرف لبنان. ويحمل مصرف لبنان في ميزانيته ودائع للحكومة اللبنانية تبلغ قيمتها 8153 مليار ليرة (5.4 مليارات دولار).

الدور الطارئ

إلى جانب هذا الدور الأساسي الذي يقوم به مصرف لبنان، كان هناك دور غير منصوص عنه في قانون النقد والتسليف، وهو دور المحفّز الاقتصادي الذي يقع على عاتق الحكومة. التقرير يقرّ بهذا الأمر ويسمي هذه العملية «الآليات غير التقليدية»، لافتاً إلى أنها «استمرّت كجزء من السياسات النقدية غير التقليدية لمصرف لبنان، وأدت دورها التحفيزي على مستوى الاقتصاد الكلّي». المقصود بهذا الأمر، هو أن مصرف لبنان أصدر تعميماً يتيح للمصارف الاستدانة منه بفائدة 1% وإعادة تسليفها في الأسواق وفق قطاعات يحدّدها هو، بفائدة لا تتجاوز 5%. لا يذكر التقرير حجم المبالغ الإجمالية التي ضخّها مصرف لبنان، لكن ما هو معروف أن قيمتها تصل الى 5 مليارات دولار، حققت للمصارف أرباحاً بقيمة 200 مليون دولار. 60% من “التحفيز” ذهب إلى القروض السكنية، اي دعم سوق العقارات وقطاع البناء، وقسم منها ذهب لتمويل مشاريع كفاءة الطاقة والطاقة المتجدّدة… وإضافة إلى ذلك كان هناك تعميم يتعلق باقتصاد المعرفة، الذي يتيح للمصارف المشاركة في رأس مال شركات ناشئة بضمانة مصرف لبنان وتغطيته للتمويل ايضاً، وقد بلغ حجم التمويل الذي ضخّه في 2015 نحو 72 مليون دولار.

حسابات «فاست فود»

في القسم الخامس من تقرير مصرف لبنان المنشور في الجريدة الرسمية، تظهر الحسابات المالية لمصرف لبنان على نحو عام مختصر لا يكشف عن التفاصيل ولا يميّز في موجودات مصرف لبنان الاجنبية بين ما له وما عليه. تبدو الحسابات كأنها وجبة «فاست فود». الهدف من التمييز، هو أن مصرف لبنان لا يشعر بأي ضغط أو اي عبء ناتج عن اي دين بالليرة طالما أنه الجهة التي تطبع النقود والمسؤول عن إدارتها. المشكلة الاساسية هي في الديون بالعملات الأجنبية التي لا يتحكّم فيها المصرف، بل يسعى لإدارة قنواتها وتدفقاتها. حسابات مصرف لبنان تشير إلى أن موجوداته في الخارج بلغت في نهاية 2015 نحو 37 مليار دولار مقارنة بـ 37.8 مليون دولار في نهاية 2014 (هذه الموجودات مكوّنة من الاحتياط الالزامي المتوجب على المصارف أن تودعه مجاناً لدى مصرف لبنان، ومن ودائع المصارف بالعملات الأجنبية، ومن الأموال التي استدانها مصرف لبنان بواسطة شهادات الإيداع، ومن أمواله الخاصة بالدولار). الخلاف بين مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي هو على البند الأخير، أي الموجودات الصافية بالدولار. صندوق النقد يقول أنها عاجزة او سلبية، ومصرف لبنان يقول إنها فائضة، لكن الثابت أن هذه الحسابات المنشورة لا توضح هذه الصورة ولا تزيل اي التباس، بل تزيده غموضاً وشكوكاً.