IMLebanon

فصول من التاريخ تروي وقائع واحداثاً غابرة

جمهورية الفراغ تُقلِقُ وتطمئن في آن

وادوار ترسم صور المستقبل والافراد

لبنان الغارق في الازمات، هل يطفو على وجه الأحداث، قبل نهاية العام الحالي، أم تستمر تداعيات الوضع العام، في نحر الوجود اللبناني في عنق المواطن اللبناني.

السؤال صعب ودقيق، والوضع اللبناني غامض، ولو بقي أشهراً بلا رئيس، وبلا طموح حيناً، وبطموح أحياناً.

في بداية شباط، انقضت على البلاد والنواب وعلى العباد خمس وثلاثون جلسة نيابية، من دون نصاب قانوني للانعقاد وانتخاب رئيس جديد للبلاد، وفي غياب المرشحين الوحيدين الرئيس العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجيه، وبحضور المرشح الثالث هنري حلو.

ومما لا شك فيه، ان البلاد في مأزق، والرئاسة الاولى تمر في عقدة، وان لبنان باق في وهاد خلافات مارونية، وسط أزمات لبنانية، والجميع ينتابهم هاجس واحد هو الاتفاق على مرشح لا على عدة مرشحين، والمراقبون يقولون ان الجمهورية واقفة في جحيم الفراغ بانتظار معجزة لبنانية، وأخرى دولية أو اقليمية، ولا أحد يمكنه التكهن بمصير آت بالفرج السياسي والإنتخابي.

وهكذا تبقى الجمهورية في أزمة الشغور وسط صراع عنيف بين الجنرال عون، والنائب سليمان فرنجيه، وبين القوى الكامنة وراء الصراع وأبرز عناصرها الاستاذ نبيه بري، ومعه حليفه الاستاذ وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري والعناصر البارزة في ١٤ آذار وفي مقدمتها الوزير الشيخ بطرس حرب، والنائب روبير غانم، وان كانت الانظار، في بكركي مركز على الأربعة الكبار: الشيخ أمين الجميل والعماد عون والنائب فرنجيه والدكتور سمير جعجع المرشح الدائم للرابع عشر من آذار.

الا ان ترشيح الرئيس سعد الحريري وقوى اقليمية ودولية للنائب فرنجيه، جعل حلف العماد عون والدكتور جعجع، يبدل في المعادلات، ويطرح خيارات صعبة في آفاق مجهولة المصير والنتائج. باعتبار ان لكل حالة مرشحها للرئاسة الاولى.

الا ان حزب الله يتمسك بترشيح العماد عون، أما العقدة فتبقى عقدة التوافق أو الافتراق على طريق بعبدا. بين الجنرال وقائد المردة وان كانت ١٤ آذار وقعت في معركة تحدق بها منذ قرابة السنة.

يوم الخميس الفائت، أي قبل قرابة أسبوعين، كان الرئيس الشيخ أمين الجميل، يجلس في بكفيا محاطاً بمجموعة محدودة من الأصدقاء، دعاهم الى غداء في بيت المستقبل مربضه الفكري، وكأنه نسي أو تناسى انه احد المرشحين الاربعة الكبار في قاموس بكركي للرئاسة الاولى.

طبعاً، لم يكن جاهزاً للادلاء بما يشبه الأحاديث السياسية، لكن ثمة وجوهاً لم تشاهده، راحت تنبش معه ماض عريق رافق رئاسته للجمهورية في حقبة الثمانينات، ومن الاسئلة، التي قيل انها طرحت عليه، أسباب خلافاته مع الرئيس حافظ الاسد خلال ١٢ قمة لبنانية – سورية، وسبل التباينات في الافكار مع الموفد الاميركي الشهير ريتشارد مورفي الذي أبقاه الرئيس السوري في جلسات حوار استمرت كل منها خمس ساعات حتى جعله يستسلم أمامه ويقبل، بان يعود الى لبنان ومعه خيار واحد: مخايل الضاهر مرشحاً وحيداً للرئاسة… وحضر من دمشق الى بكفيا المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية، وحذر اللبنانيين الذين رفضوا اتفاقه مع الرئيس الاسد، بقوله: مخايل الضاهر او الفوضى.

انصبت الاسئلة في المقر السابق لرئاسة الجمهورية، والمقر الجديد لبيت المستقبل على سؤال يتيم: لماذا، رفضتم النائب الضاهر لخلافتكم، وتركتم البلد يهوي الى صراعات عميقة.

طبعاً، رد الرئيس الجميل بمعلومات وبمواقف وآراء، أبرزها انه لم يرفض مخايل الضاهر ولم يسع اليه، لكنه استدرك بانه حاول أن يجمع النواب، وكانوا مجتمعين في بكركي حول نائب عكار السابق، لكنه لم يفلح في اقناع أحد به، لان السوريين والأميركان كانوا يحاولون تسويقه في لبنان.

وعندما دعا الرئيس الجميل ضيوفه الى الغداء، وقف مرحباً بهم، وقد اعد كلمة صغيرة على أوراق صغيرة، وكأنه كان يحرص على حكمة مكتوبة لا على كلام في الهواء الطلق، في مناخ بكفيا، التي كانت تنعم بطقس ربيعي، هادئ، وجميل.. الا ان زواره عادوا من بكفيا، وهم على قناعة بان الرئيس السابق للجمهورية دعاهم الى جمهورية في بيت المستقبل.

مار مارون

كان الرئيس حسين الحسيني رجل الساعة في عيد مار مارون، تصدر الحضور في كنيسة مار مارون وفي صدر القاعة رئيس اساقفة بيروت المطران بولس مطر، وفي الجانب الآخر كان الرئيسان تمام سلام والنائب عبد اللطيف الزين ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري.

وكان واضحاً غياب رئيس الجمهورية، بعد انقضاء عام وثمانية اشهر على الشغور في الموقع الاول من الجمهورية.

هذا، قبل الظهر، اما بعده فقد صعد الرئيس الحسيني، الى كنيسة جديدة، انيقة المظهر، للمشاركة في حفل توقيع كتاب الشرخ الماروني، من مار مارون الى الفراغ في رئاسة البلاد.

الا ان رئاسة الجمهورية هي معركة لبنانية، لكنها مارونية في الاساس.

ويقول الرئيس حسين الحسيني ان لبنان، ايا كانت انتماءاته، يبقى الرئيس المسيحي فيه، هو رجل الساعة الراهنة أو المقبلة، لان لبنان يفقد دوره اذا ما غاب عنه الوجه المسيحي المشرق في هذه الحقبة، وفي معظم الحقبات، لان لبنان من دونه يصبح وطناً من دون طعم، ومن دون قائد. ولذلك فقد كان عيد مار مارون عيداً وطنياً جامعاً لكل لبنان ولكل فئاته.

صباح ذلك اليوم، جلس وعن يمينه الرئيس الشيخ امين الجميل، وعن يساره ووراءه حشد من الوزراء والنواب.

وبعد الظهر تحلق حوله وزير الثقافة ريمون عريجي ومؤلف كتاب الشرخ انطوان فرنسيس والشاعر ميشال جحا ونقيب المحررين الياس عون ولفيف من المطارنة. والشرخ هو قصة انشطار خطير في التاريخ الماروني. ومع مرور الزمن تسبب الشرخ بافظع الكوارث البشرية، لانه كان مصدر زلازل، ذهبت بفعلها مدن من الوجود واندثرت حضارات.

اما علمياً فإن الشرخ كان بداية دمار، بسبب الإنشطار في عمقها، ليعود الى البروز والظهور هل صعد الرئيس حسين الحسيني الى جوار جامعة اللويزة ليؤكد ان ارادة الصمود اقوى من رداءة الإنقسام.

ووجود الرئيس الحسيني، جعل الرئاسة الاولى لا تضيع بل تصمد، لترتفع مجدداً في رحاب وطن يبحث عن رجال الدولة، وعن دولة لا تقوى الا برجال وطن، ولا تطرح منطق الدولة، على ايدي رجال اقوياء في المواقف والرؤى.

وهذا ما جعل الرئيس السابق لمجلس النواب، في حقبة الثمانينات، يقول للزميلة هدى شديد، ان من يقول ان اتفاق الطائف بات فاقد الصلاحية، بعد تقييد المؤسسات وانحلالها، مغرق في الاضاليل.

ويتساءل عراب الطائف سابقاً وفيلسوفه حاضراً، انه عندما اجتمع في معراب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ماذا قالوا، ألم يقولوا بالتزام مقدمة الدستور واتفاق الطائف. ويتساءل الرئيس الحسيني ويجيب جازماً اننا نحتاج الى اجماع لبناني، واجماع عربي واجماع دولي ليحل مكان اتفاق الطائف. وفي رأيي يتابع ان لا بديل من اتفاق الطائف الا الطائف.

ويتساءل أيضاً: من المسؤول عن تغييب الدستور، وعن الفراغ في سدة الرئاسة الاولى وانحلال المؤسسات؟ ويستطرد بان سلطة الامر الواقع التي استولت على المؤسسات هي المسؤولة، وكل من شارك في هذه السلطة مسؤول عن افتقاد المؤسسات الشريعية، وتعريض البلاد لكل الأخطار. لا يخوض الرئيس الحسيني في كل من شاركوا في السلطة من العام ١٩٩٢ الى اليوم لكنه يتهمهم جميعاً، مواربة، في تدمير البلاد ومؤسساتها الدستورية.

الا ان الرئيس الحسيني، الجالس في صدر القاعة في اللويزة، يؤثر الصمت، الا اذا حشرته فيعود، الى التذكير بما وصفه، ذات يوم في العام ٢٠٠٨ بموقفه الرائد والصاخب في آن، بانه استقال يومئذٍ احتجاجاً على ما وصفه بالتمزق للدستور فقال كلمته الشجاعة: ان الطبقة السياسية تريد دولة بلا مؤسسات، ووطناً بلا مواطنين، ويرى ان عدم اقرار الموازنة العامة منذ عشر سنوات يجعل السلطة استبدادية بشكل مطلق.

كان اللافت للأنظار في اللويزه، موقف الأستاذ حسن حمادة عضو هيئة الحوار مع النائب طلال إرسلان، وهو رائد من روّاد العلمنة، ونجل النائب الراحل قحطان حمادة في العام ١٩٥٧، وله رأي صلب في الصراعات الدينية والمواقف الإنسانية.

ويقول المفكر الكبير في مقدّمة كتاب الشرخ: مسكين الدين. كم من الخطايا تُرتكب باسمه. ويردف: حين يختلف أتباع الدين مع بعضهم بعضاً يبدأ الاحتراق وتأتي التفرقة، فتُحلل الدماء ويتسارع السقوط حتى أرهب الويلات. ويرى أنه من أخبث النظريات التي صّرح بها ابن آدم، تلك التي تحلّ مسؤولية المساوىء والظروف، وكأنها تبرّىء الإنسان من ارتباكاته الشخصية، دين الرب الإله، خالق الكون، طفل رضيع، بريء، يعبث به ابن آدم. فهل الطفل الرضيع مسؤول عن تصرفات من يوجّه اليه الأذى.

ويقول حسن حمادة، إن ثمّة قمة ثلاثية في حال انعقاد دائم، بين الطفل الرضيع والصدق والدين، يتداولون رئاسة جلساتها المفتوحة، وغير المحدّدة بزمن أو مقياس. كل ما يدور فيها علني، على أنه ثالوث القداسة: دين، صدق وطفل رضيع.

ويتطرّق حسن حمادة إلى محو متعمّد للراهب اليانو الذي اعتنق المسيحية في العام ١٥٥١ في مصر، وانتقل إلى حاضرة الفاتيكان، حيث تمكّن من التقدّم والوصول إلى شخص سيد الكنيسة الكاثوليكية الحبر الاعظم غريغور الثالث عشر، الذي انتدبه مع راهب آخر للمجيء إلى لبنان، والإطلاع على احوال الموارنة، في ضوء نداء الاستغاثة الذي كان البطريرك مخايل الرزي قد وجهه إلى البابا، شاكياً ظلم الترك بحقّ الكنيسة المارونية وطالباً العون.

ويضيف: لقد راح اليانو يفتّش عن الوثائق المارونية، فجمع عدداً كبيراً من الكُتب، تحتوي على وثائق تغطّي حقبة تمتد إلى تسعة قرون من التاريخ الماروني، وأضرم النار، فاستحالت رماداً في ساحة كنيسة سيدة قنّوبين.

وكان ذلك التصرّف ظاهرة داعشية، فتكت ببلادنا والتراث، طارحاً العديد من علامات الإستفهام حول مناصبة اليهود العداء للكنيسة المارونية المشرقية العريقة، رابطاً هذا الحدث المروّع، بحدث سابق وقع في العام ٥١٧ ميلاديا، حيث شارك اليهود ب المجزرة الرهيبة التي سقط ضحيتها المئات من الرهبان الموارنة في أديرة وادي العاصي.

ويشكّل هذا التاريخ، الشديد اليقظة، خير تبيان بوجود شبكة تجسّس يهودية تخترق الهرم المؤسساتي للكنيسة، وتعيد بالذاكرة إلى العديد من المتغيّرات، ومنها ذات التزوير الذي أقدم عليه المسؤول الصهيوني ناحوم سوخولوف، بُعَيد الحرب العالمية الاولى، حيث نقل إلى الأوساط الكاثوليكية في الولايات المتحدة رسالة كاذبة نسبها إلى قدس الحبر الأعظم بنديكتوس الخامس عشر، كبير الذين تصدّوا لوعد بلفور ولإتفاقية سايكس – بيكو، ولصكّ الإنتداب البريطاني على فلسطين، ولمشاريع الهجرة اليهوديّة وتهدد أرض المسيح… فأشاع سوخولوف في الرسالة المزوّرة أن بنديكتوس الخامس عشر يؤيد المخطّط الصهيوني بكامله. ويقول حسن حمادة أنه من اليانو إلى سوخولوف، إلى اتباعهما، كلّ في موقعه، مع أطيب التمينات… من يصافح أيديهم ويعمل معهم يكون قد نقل بنفسه ما فعله الحمل الوديع بمصافحة الذئب المفترس. كم من اليانو وسوخولوف في حاضرنا كما في ماضينا؟!

تنسّك مار مارون على قمة قلعة كالوتا التي تعلو ٥٦٠ متراً عن سطح البحر، والتي تبعد ٥٠ كلم عن مدينة قورش، وهي باتجاه جنوب القورشية وبمحاذاتها، وتبعد ٣٠ كلم عن مدينة حلب ضمن سوريا الأولى.

المعروف أن أكبر مدن القورشية، والأقرب جغرافياً الى قمة قلعة كالوتا التي كان يتنسك فوقها القديس مارون، هي مدينة براد. أما سائر القرى المحيطة بتلك التلة فهي برج الكاز شمالاً، وكباشين جنوب غرب، وبرج حيدر وكفرنابو شرقاً، اضافة الى قرية كالوتا. وتبعد براد التي هي عاصمة جبل سمعان ثلاثة كيلومترات في خط مستقيم عن كالوتا وستة كيلومترات عبر طريق شقت حديثاً بين قلعة كالوتا وبلدة براد. والأرجح أن الخلاف وقع بين سكان هذه القرى الصغيرة، أو بين بعضها، يوم وفاة الناسك مارون فجاءت مجموعة كبيرة من أهالي براد وانتزعت جثمان القديس ونقلته الى بلدتها حيث أقامت له مدفناً يليق بالكنز الثمين. كما جاء في نص الأسقف تيودوروتس.

ما من سبب للتشكيك بهذه الحادثة لأن هذا النص كتبه أسقف الأبرشية بعد ثلاثين سنة فقط على الوفاة المعروفة للقديس مارون وهو المرجع التاريخي الوحيد الذي استند اليه جميع الذين كتبوا عن مار مارون كما يقول العلامة فؤاد أفرام البستاني في كتيِّب عنوانه مار مارون أصدره عام ١٩٦٥.

إذا توقفنا لحظة على تلة كالوتا وعدنا إلى جنازة الناسك القديس مارون الذي لا نعرف بالتحديد تاريخ وفاته الذي يتفق المؤرخون على أنه عام ٤١٠ لا بد من أن نسأل:

لماذا خصص الأسقف المؤرخ تيودوروتس في نصه المقتضب مقطعاً كبيراً عشرة أسطر للحديث عن جنازة الناسك، فأخبرنا أن خلافاً وقع بين أبناء القرى المحيطة بموقع تنسّكه، حول أحقية كل واحدة منها بدفن الجثمان في أرضها؟

ثمة خط ماروني ثالث كان العنصر الاساس في استمرارية الجماعة المارونية، انتهجته النسبة الكبرى من المجتمع الماروني، هو خط التقوى والتعبّد والصلاة وممارسة الفروض الدينية والتمسّك بالفضائل التي بشّر بها القديس مارون. وتجسّد هذا الخط تاريخياً في تعاليم الكنيسة المارونية الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية التي التفّ حولها المؤمنون… لأنهم آمنوا بأنّها ملجأ خلاصهم في أزمنة الشدائد.