IMLebanon

“تفاهُم داريا”: تأمين أسوار دمشق

ناصر شرارة

لا شكّ في أنّ سيطرة الدولة السورية على داريا، يشكل حدثاً مهماً على جبهة سعي النظام إلى تأمين دمشق؛ وهو يوازي في أهميّته حدث دخول الأتراك الى جرابلس لتأمين الحدود التركية؛ ولذلك يُنشئ بعض التحليلات صلة بين توقيت بدء تطبيق تفاهم إخلاء داريا من المسلّحين، وبدء أنقرة بإخراج “داعش” والأكراد الى ما وراء الخط الأحمر التركي عند مجرى غرب الفرات؛ وأيضاً تزويد موسكو الجيش السوري بأسلحة “غراد” معدّلة لإقفال فجوة المعارضة لخرق حصار حلب.

ترى هذه التحليلات أنّ كلّ هذه المستجدات هي مؤشرات تُمهّد كاحتمالٍ أقصى لهندسة انطلاقة نحو “جنيف ٣” أو كحدٍّ أدنى لرسم خطوط لستاتيكو الحرب السورية يُمكن أن تكون ثابتة، وذلك حتى انتهاء الانتخابات الأميركية. بمعنى آخر رسم خطوط اشتباك لا تسمح بحدوث مفاجأت عسكرية متبادلة بين الروس والأميركيين، أو اختراقات ميدانية يفاجئهما بها الإقليميون.

من السابق لأوانه الإجابة في هذه اللحظة عن سؤال أين يقع حدث داريا داخل البعد الدولي والإقليمي الراهن للأزمة السورية، ولكن في هذه المرحلة المبكرة من انتهاء تفاهم إخلائها من المسلّحين، يمكن التوقف عند ثلاثة معطيات أساسية تؤشر إلى الخلفيات المهمة داخل حدث داريا والمسارات التي أفضت اليه:

المعطى الأول، يتعلّق بالدور الروسي الذي حرص منذ بدء “عاصفة السوخوي” على إرساء نوع من الهدنة مع ضواحي دمشق الكبرى التي تسيطر عليها المعارضة وضمنها داريا، وقوامها مبادلة هدوئهم العسكري بعدم قصفهم من الطائرات الروسية.

كانت تصاب هذه الهدنة ببعض الخروق، وجرت العادة أن تردّ عليها المقاتلات الروسية بأسلوب تأديبي صارم، ما يُعيد الهدوء الى نصابه. وقبل نحو أربعة أشهر، حصلت واقعة لافتة كشف عنها سجلّ عمليات الإغاثة في سوريا، وتمثلت بإشراف الروس على تحريك قافلة إغاثة إنسانية نحو داريا، وهي واحدة من المرات القليلة التي وصلت فيها المساعدات الإنسانية إلى داريا المحاصرة منذ نحو أربع سنوات.

كما تدخّل الروس لإطلاق سجناء من منطقة داريا من سجون النظام، واعتبر نجاح الروس في هذا المجال، بمثابة إيذان ببدء محاولة روسية لإلحاق داريا بالمناطق القابلة لإنتاج تسويات فيها بين مسلّحيها والدولة السورية، سلمياً، ما يُحقّق هدفاً كبيراً على طريق سعي موسكو إلى مساعدة النظام بتأمين العاصمة دمشق.

المعطى الثاني، وهو استدراك لهدف تأمين دمشق: فداريا، والمعظمية اللصيقة بها والتي ستبدأ أيضاً عملية إجلاء المسلَّحين وعائلاتهم عنها، لا تعتبران فقط أبرز مناطق المعارضة المسلّحة في الريف الغربي لدمشق، بل هما تصنّفان على أنهما من الريف اللصيق بالعاصمة؛ إذ تبعد داريا من ساحة الأمويّين كيلومترين فقط؛ فيما تبعد المعظمية من مطار المزة العسكري كيلومتراً واحداً لجهة الجنوب؛ وتأمينهما يعني تحصين أسوار دمشق، ومعاودة فتح مطار المزة أمام عمل مروحيات الجيش السوري.

وقبل أن تتحوّل المقاتلات النفاثة السورية لاعتماد قاعدة الضمير الجوّية غير البعيدة من دمشق، كان مطار المزة هو الأساس الذي تعتمده في حركتها، ولكنّه خُصّص أخيراً للمروحيات وكونه المطار الذي تجثم فيه طائرة الرئاسة السورية.

ولا تقتصر أهمية داريا والمعظمية العسكرية فقط على أنهما ترفعان من نسبة تأمين العاصمة؛ إذ إنّ سيطرة الجيش السوري على المعظمية يفتح الطريق أمامه واسعاً لاستعادة خط التماس مع إسرائيل عند حدود الجولان، وأيضاً لبسط سيطرته على منطقة غرب الجولان داخل سوريا المفتوحة على مثلث الحدود اللبنانية – السورية – الإسرائيلية المقابلة لمنطقة شبعا اللبنانية.

بهذا المعنى، تُعتبر استعادة داريا ومن ثمّ المعظمية، ضمن نتائجهما الأبعد أثراً، بمثابة أوّل الطريق لاستعادة النظام زمام إشرافه على حدود سوريا الدولية مع لبنان وإسرائيل في الجولان المحتل، وبالتالي إعادة الوضع فيهما الى مرحلة ما قبل استيلاء “النصرة” و”الجيش الحر” (“وداعش” بشكل محدود) على مواقع لهما في هذه المناطق الملاصقة لخط الهدنة السورية الإسرائيلية عند الجولان المحتلّ، وأيضاً على مناطق متحكّمة بمثلث الحدود مع لبنان والجولان المحتلّ مقابل شبعا اللبنانية.

المعطى الثالث، يتعلّق بخط ترحيل مسلّحي داريا وعائلاتهم الذي مرّ بالمتحلّق الجنوبي في قلب دمشق في اتجاه أدلب. وهناك تمّ إعداد غرفة طوارئ مع فريق عملٍ من خمسين شخصاً لاستضافتهم في مجمع أعدّت فيه مئة غرفة لاستقبال المسلّحين المنسحبين من داريا وعائلاتهم. ويقع هذا المجمّع في بلدة بايسقا على الحدود السورية التركية.

وتتّخذ مواقع المعارضة السورية المعارِضة لتفاهم داريا، من قرب مجمع بايسقا من الحدود مع تركيا، إشارة لتربط بينها وبين معلومات لديها تدّعي أنّ غرفة “عمليات الموك” التي تُقدّم الدعم إلى المعارضة المسلّحة المعتدلة في الميدان السوري، والتي تشرف عليها واشنطن ودول أصدقاء الشعب السوري، رفضت في الآونة الأخيرة دعم كلّ مطالب المعارضة في جنوب دمشق لشنّ هجمات لمنع سقوط داريا، وذلك لوجود تفاهم دولي مسبَق مع موسكو والنظام لإخراج المسلّحين منها على نحو ما حدث الأسبوع الماضي.

وكان لافتاً أنّ المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دو ميستورا نفى علم الأمم المتحدة بتفاهم داريا، وأعلن أنه ليس طرفاً فيه، علماً أنه تزامناً مع نشر إعلانه بثّت وسائل الاتصال الاجتماعي للمعارضة في جنوب دمشق شرائط فيديو تُظهر أنّ رعاية خروج مسلّحي داريا وعائلاتهم تجرى برعاية تنفيذية مشترَكة بين هيئة الإغاثة الدولية التابعة للأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري وشاحنات بيضاء كتب عليها UN.

وكان بارزاً ضمن هذا السياق تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عن أنّ مركز حميميم أبلغ موسكو عن تفاهمات أخرى ستحصل في غير منطقة تفضي الى إخراج المسلّحين منها. ويُشاع أنّ المقصود هو منطقتين:

– مخيم اليرموك الذي أعدّ في شأنه منذ نحو عام اتفاق كامل برعاية الأمم المتحدة بين الجيش السوري و”داعش” يقضي بخروج التنظيم منه، ولكنه حتى الآن لم ينفذ ويؤجّل مرة بعد مرة لأسباب سياسية وليس تقنية، ذلك أنّ النظام يحرص على أن يأتي توقيت تنفيذه في لحظة سياسية مناسبة تمكّنه من استثماره كهدف داخل معادلة مجمل الصراع، وليس كهدف موضعي تقني منفصل.

ويرى مراقبون أنّ لحظة تنفيذ استعادة اليرموك من “داعش” والمعارضات أزفّ الآن، بفعل أنّ الدولة السورية ستضعه ضمن سلّة استعادة كلّ ريف جنوب دمشق وصولاً إلى إعادة إمساكها بخط الهدنة مع إسرائيل عند الجولان ومع لبنان عند مثلث شبعا الحدودي.

– المنطقة الثانية، هي حي الوعر في مدينة حمص، وهي المنطقة الوحيدة التي لا تزال تضمّ وجوداً للمعارضة المسلّحة في كلّ المدينة وكلّ محافظتها تقريباً.

وإخراج المسلّحين منها بالطريقة عينها التي حصلت في داريا، سيعني أنّ جبهة تسوية بؤر التوتر الأكثر سخونة في سوريا وذلك بالاعتماد على تفاهمات لتبادل الأسرى وخفض التوترات بين المناطق المحاصرة ومحيطها، ستؤسّس لإعادة هندسة الميدان السوري على أساس يثبت تماسات باردة أو أقلّ سخونة بين مناطق وليس بين بؤر متداخلة.

وهو واقع يُراد منه جعل الميدان السوري أكثر قابلية للتجاوب عملياً مع المسعى الروسي – الأميركي لفرض هدنة مستديمة وغير هشّة في سوريا تكون مدخلاً لبدء التفاوض على الحلّ السياسي في “جنيف ٣”.