IMLebanon

كلّنا للأمل

أطلقت القيادة العسكرية شعار “كلّنا للوطن”، وعلّقت لافتات ضخمة في هذا المعنى، لمناسبة عيد الاستقلال، وأرفقتها بصور الذي قضوا في سبيل الدفاع عن القيم الوطنية. في موازاة ذلك، أطلقت وزارة الاتصالات تسجيلاً هاتفياً خاطفاً لعبارة “كلنا للوطن للعلى للعلم”، في مناسبة “يوم العلم”، فقامت الدنيا ولم تقعد على وسائل التواصل الاجتماعي، تسخيفاً لهذه المبادرة واستنكاراً للوقت الضائع و… المال الضائع. من أجل الحياة التي أحبّها، أُطلق شعار “كلّنا للأمل”!

أهل الوضاعة السياسية والمالية والدينية والمجتمعية والأخلاقية، عارُهم لا يوصف، ويحلو لهم أن يتفاخروا بهذا العار! عارُ هؤلاء سيقضّ مضاجعهم، وسيلاحقهم إلى القبور. وهو، سينتفض يوماً ما على نفسه، وسيثأر. على سبيل هذا النوع من “الثأر” أيضاً، ماذا لو كتبنا، وأطلقنا مبادرات تدعو إلى الوقوف الشعري الشفّاف أمام الفجر، وتروّج لأنوثة فنجان القهوة في الصباح، وللضباب الذي يفوح منه، وللعطور التي تؤخذ بموهبة الشميم والعقل؟ وماذا لو كتبنا عن الذين ينحازون إلى الغبطة الروحية، ويختارون السير في الغابات غير آبهين لنظام القتل الخلاّق؟ وماذا لو طلبنا من جميع الناس أن يفعلوا شيئاً مماثلاً بدل الاستيقاظ بأرواحٍ متجهّمة ووجوهٍ مضرّجة بالعذاب؟ وماذا لو حوّلنا المدينة كلّها فضاءً رحباً، وليل نهار، لتظاهرات موسيقى الحبّ واللطف والحرية؟ ثمّ ماذا لو طلبنا من الجرائد والإذاعات والتلفزيونات ومواقع التواصل الاجتماعي أن تقفل مجالها الحيوي أمام أخبار الموت والعنف وفساد المعايير وسقوط أهل السياسة والاقتصاد والشأن العام في المستنقع، فـ”ترغم” المتلقي على التفاعل مع ما تقترحه له من مغريات الأمل والسعادة؟

نعم، أريد ذلك من كلّ قلبي وعقلي، ثأراً من الذين يسرقون منا بداهات الحياة وأنوثتها، وينتزعون حقّنا الطبيعي فيها. لكن، يؤسفني شخصياً أنني غير قادر على إيهام القارئ بالأمل الكاذب. لم أعد أستطيع، أيها القارئ، أن أفعل شيئاً يجافي ما أعتقد أنه حقيقة، عارفاً أن السرّاق لا يخجلون ولا يملكون الإحساس بالعيب والذلّ. صحيحٌ أنني أكتب من دون أن أرتجف، ذهاباً مع عنوان ecrire sans trembler الذي وضعه لنفسه ملحق “لوموند الكتب” في عدده، الأسبوع الفائت، وعبّر فيه 28 كاتباً من العالم عما يختلج في وجداناتهم وعقولهم من أفكار ومواقف ومشاعر حيال العنف الذي ضرب العاصمة الفرنسية؛ صحيح أنني أكتب من دون أن أرتجف، لكنني لا أستطيع أن أكذب، فأوهم الناس بأملٍ خادع أو بأملٍ مستحيل.

يؤسفني، على سبيل المثل، أنني لا أستطيع أن أعيّد فيروز، كما فعل العديد من الزملاء والأصدقاء، أنا الذي أرفض أن أجعل لها عمراً بين الأعمار، متجنّباً اغتنام مناسبةٍ هي ملكُها الشخصي الحميم، فأجعل منها عملاً احتفائياً أو استعراضياً على العموم، لإظهار مكانة هذه الفنّانة في الوجدان الجمعي، مكتفياً في المقابل بالابتسام الأناني النرجسي السرّي اللامرئي، كلما تذكرتُ انحنائي أمامها وتقبيلي يدها عندما قابلتُها للمرة الأولى، وسؤالها، هي، أمام بعض الأصدقاء، عمّن يكون هذا الرجل الغريب العجيب.

أعرف أنني لا أعرف أن أشقّ طرقاً معبّدة للمجاملات والعلاقات العامة. كما أعرف أنه لا يحقّ لي أن أكون متشائماً ويائساً. وأنه لا يجوز لي البتّة أن أبثّ روح الانهزام في “الرأي العام”.

لكنْ، إذا لم يكن في اليد حيلة، فإنني أريد، على الرغم مما يمرّ به لبنان من انحطاطٍ سياسي وقيمي، مثيرٍ للتشاؤم واليأس؛ أريد لشباب المجتمع المدني وشاباته، أن “يحتلّوا” لبنان سلمياً. نعم، أن “يحتلّوه”، مثلما نحن، طلاّب ذلك الزمان وطالباته، شبابه وشاباته، احتللنا الجامعة اللبنانية، فعلاً لا قولاً، عملانياً لا رمزياً، وجعلنا لها عمداء من الطلاّب، وسيّرنا العمل في كلياتها ومعاهدها، احتجاجاً مدنياً ديموقراطياً على تلكؤ الحكومة عن تنفيذ المطالب الوطنية بجامعة طليعية، متقدمة، تكون واجهة لبنان الإنسانوي، الثقافي والعلمي.

أريد لشباب لبنان وشاباته، أن “يرغموا” النوّاب الذين مدّدوا لأنفسهم قسراً وخلافاً للقانون، على أداء واجبهم الأول بانتخاب رئيس للجمهورية، وبإقرار قانون مدني للانتخاب. كيف؟ باختراع (بل بفرض) ثقافة شبابية، جديدة، حرّة، مدنية، متمردة، من طريق الضغط الديموقراطي المنظّم، “ترهب” السياسيين، وترجّفهم، وتجعل أبناء الأجيال الجديدة، كالموج الأبيض الجارف، و”تحرّرهم” من المنتهزين والطفيليين الذين يحاولون سرقة ثقافتهم الجديدة هذه، بهدف تشويهها، وركوب موجها؛ ثقافة خلاّقة تضع المجتمع السياسي كلّه أمام “أمرهم الواقع” هذا.

كم أريد، أنا نفسي، أن يجرفني هذا “الأمر الواقع”، الشبابي، الحرّ. فهل لي بغير الكتابة، أنا الكاتب المواطن، الفرد، الأعزل، أن أشهّر بالممتنعين عن انتخاب رئيس، معلناً أن امتناعهم هذا يجعلنا دولة فاشلة ومارقة، ويجعلهم مجرمين موصوفين، أياً تكن الذرائع والأسباب التي يشهرونها في وجوه النوّاب الذين في الضفة المقابلة؟! لكن، هل يقيم هؤلاء وأولئك وزناً لكاتبٍ، هو مواطنٌ فردٌ وأعزل؟!

وهل لي بغير هذه الكتابة اللئيمة، أن أقنع الباحثين عن حلول لمسألة النفايات، بأن عجزهم المهين عن إيجاد حلّ، يجعلهم، هم أنفسهم، نفايات بشرية وسياسية وأخلاقية، بكل ما تعنيه العبارة من معنى؟

وهل لي بغيرها، هذه الكتابة – المسّاس، أن أقنع المعنيين بمسألة المكتبة الوطنية (مثلاً)، بأن لا سبب قانونياً وتقنياً وتنفيذياً وهندسياً ومالياً على الإطلاق يحول دون استكمال العمل لفتح أبوابها، سوى ما يرتبط بالقصور العقلي والعجز الإداري والتقصير الأخلاقي؟!

يؤسفني أنني لا أملك سوى الكتابة الفجّة. أقول هذا، عارفاً في قرارتي وأعماقي، وفي أدائي اليومي، كما في مهنتي، أنني، على الرغم من هذا كلّه، ومن غيره، لن أستسلم للعجز. فسيظلّ الحبر يصرخ في وجه هذا النوع من الانحطاط الأخلاقي والقيمي والسياسي، الذي يوازي فعل الاستبداد، مع فارق إضافي، أنه استبداد “وطني” عام، أشنع من الاستبدادات التي تمارسها الدول الأجنبية، الشقيقة وغير الشقيقة. وسيظلّ هذا الحبر يصرخ ويبصق في وجوه أسياد هذا الانحطاط وأدواته، قائلاً لهم إنها لا تمطر، بل بصاقٌ هو هذا الذي يصفع كراماتهم ووجوههم الذليلة.

أعترف بأنني عاجز ويائس، وبأنني أريد أن أتداوى مما أنا فيه، لكنني لا أجد دواءً حقيقياً، أقنع به نفسي، وأقنعكَ به، أيها القارئ، سوى الأمل. وإذا كان هذا الأمل مريضاً، على قول الشاعر عباس بيضون، في عنوان أحد دواوينه، فإن هذا المرض هو دواؤنا الوحيد. هكذا، وعلى غرار “كلّنا للوطن”، فلننشد “كلّنا للأمل”، وإن يكن الأمل مريضاً حقاً!

■■■

هذا في الشأن العام. أما في الشأن الخاص فأنا لا “أرتدع”. لا أتعلّم من شيء، ولا أريد أن أتعلّم من شيء. أهجم على حياتي كما لو أنني لم أهجم من قبل. وكما لو أنها، هي أيضاً، هذه الحياة، لم يسبق لها أن طعنتني في صدر أو في ظهر.

لا يعنيني أن أعي مثلاً، عندما تهاجمني غيمة، ماذا ينبغي لي أن أفعل. فأنا موقنٌ أن شيئاً ما فيها، لا بدّ أن يحميني من غرق أو من وقوع. علماً أنني لا أتهيّب وقوعاً ولا غرقاً، أنا الذي لا يحسن التعمشق بحبل نجاة، ولا السباحة في شبر ماء.

كلّما رأيتُ، تضاعفتْ غيومي وازددتُ غبشاً. كلّما رأيتُ، وقعتُ وغرقتُ.

أنا الذي لا يعنيني في هذه الحياة سوى أن أكون عاشقاً، كيف لي أن أتحمّل وزر أن لا أكون عاشقاً؟! كيف لي أن أتحمّل وزر أن أكون عاشقاً؟!

أنا الذي لا يزال ينتظر كلّ مساء مَن تقرع الباب، كما لو أن الباب سيُقرع مساءً للمرة الأولى، أيّ شعرٍ من شأنه أن يجعلني لائقاً لفتح هذا الباب؟!

أنا الذي قد يكون بلغ من العمر ما لا يسمح له بأن يكون مراهقاً بعد الآن، يعنيني من هذا العمر، الأمل الذي سيظلّ، ولا بدّ، ينضح منّي، وإن كان مسموماً أو مريضاً!