IMLebanon

ما لَنَا هو لنا وما لكم هو لنا أيضاً

أسئلة التيئيس كثيرة: ماذا سيحقق الحراك؟ هل سيغير شيئاً؟ هل سينجز مكسباً؟ الطبقة السياسية أقوى منه ومتمكّنة من ماكينة النظام، والحراك جسم مبهم وجموع من مشارب فكرية متعددة وبشعارات بسقوف متفاوتة والنظام السياسي متين، يمتلك أدوات الفتنة والحرب الأهلية، وقادر على توظيف الطائفية والمذهبية في الشارع وبفعالية معطِّلة لمسار الحراك وسلميته، فيما الحراك، كثير الإيمان والغضب، قليل التماسك وهشّ. زعماء النظام، اراخنة السياسة وفنانون في ألاعيب الاستيعاب، وقادرون على ابتلاع الإهانات، وقادرون على قطع الطرق أمام الحراك، فيما الجموع المحتشدة بلا قيادات وبلا أحزاب وبلا نقابات، ويسهل تيئيسها وحملها على التراجع. النظام محفظة المصالح المالية والسياسية ومتراس المغانم وفنون المحاصصة، فيما الحراك تجمعه الحماسة.

أسئلة التيئيس كثيرة. يريدون من الحراك ما لا تقوى عليه أحزاب وتيارات ونقابات، هزمها النظام، عندما جيّرها وأدخلها في منظومة المصالح، أو، تحديداً، أقعدها على وهم المشاركة بفتات المغانم برباط التبعية… يريدون من الحراك، بعد أيام من اندلاعه المثير، أن يجترح معجزة إسقاط الطبقة السياسية غداً، وهي طبقة يعود تاريخ تجذّرها إلى عهد ما بعد الإمارة أولاً، وما بعد الحرب الأهلية أخيراً… يريدون من الحراك أن يحل لهم أزمة النقابات غداً، والكهرباء بعد غد، ووقف الهدر والفساد قريباً جداً، وإقامة الدولة المدنية العلمانية الديموقراطية في الشهور المقبلة… ما يريدونه هو للإحراج فقط… واقع الحال غير ذلك بالمرة.

إنما، لقد تغير الكثير حتى الآن في المقلب الآخر من النظام. الإجماع اللبناني تبدّل. لم يعد مجتمع السكون والرضى والقبول واليأس. لم يعد قانعاً بالمذلّة وفقدان الكرامة وانعدام الأمل وانسداد الأفق. صار يرى أمامه بوضوح، أنه إذا أضاء الطريق بوعيه، أمر قدميه بافتتاح المسيرة إلى الأمام… لقد تغيّر المجتمع اللبناني، غير المقيد بضرورات وفرائض المجتمع الأهلي (الطائفي والمذهبي) ولم يعد يجتر أحلام الماضي. صار يحلم بالمستقبل، عندما رسم خطاً فاصلاً بينه وبين «أهل النظام»، وقرر أن يمارس فن الصدق في القول: «طلعت رحيتكم»، «أنتم فاسدون»، «حكام وحرامية»، «نريد محاكمتكم». طبعاً هذه شعارات تدل على اتجاه وعلى ثقافة أكثر مما تدل على إنجاز.

ولقد تغيّر لبنان. لم يعد مكان إقامة قهرياً لأبنائه، ورصيفاً لتصدير شبابه إلى أسواق العمل في الخارج من أجل أن تقتات من مجهوده، حفنة من «قابضي المال، والطوائف والسياسة»، صار لبنان مشروع وطن حقيقي، في المستقبل، ولم يعد مقاطعة قراصنة السياسة القادمين من تاريخ الإقطاع والقناصل والأجانب وتحالف قوى التخلف والعولمة معاً، ليعرضوه في الأسواق الدولية والإقليمية الشرهة، ليكون موطئ قدم ونفوذ ودم لهم.

تغيّر لبنان، أقلّه في الشعار والرغبة والتطلع والأمل، وهذا قياساً بما كان عليه المجتمع اللبناني المعقّد في تأسيسه يعتبر ثورة ثقافية، تجعل من التداول بثقافة النظام وفساده، جريمة تستحق العقوبة.

ليس مطلوباً من الحراك ان ينجز المستحيل، إنما، أن يؤسس لمرحلة ينجز فيها هذا المستحيل: لبنان دولة ووطن. ما أعلنه الحراك بصوت صاخب وهمّة عالية وصدق بالغ، أن هذه البلاد لنا وليست لهم. نريد استعادة ما لنا مما لهم. بلادنا محتلة من طغمة داخلية شرسة وفاسدة، وبلاؤها أشدّ وطأة من الاحتلال الخارجي. غالباً ما يكون عدو الداخل أفدح من عدو الخارج. عدو الخارج عارٍ من القرابة. عدو الداخل مشتبك ومشترك معنا في كل شيء، ويدّعي أنه منا ولنا، فيما هو ضدنا ومع نفسه فقط، ويستبيح البلاد، ولا يترك إلا الفتات… لقد أشعر الحراك اللبنانيين بأن هذه البلاد لهم وأنها منهوبة، والمطلوب استعادتها واستعادة حقوقنا كاملة، في أرضنا ومائنا وبحرنا ونفطنا وبرنا والمؤسسات كافة، وأن تكون السيادة للدستور والقوانين، ولا لصفقات التسوية بين المتزعمين الذين حاولوا أن يخطفو الحراك أو أن يسرقوه، ولما عجزوا كالوا له الاتهامات ومنها تهمة السرقة.

الحراك، قال للبنانيين: ما لنا هو لنا، وليس لكم شيء عندنا نعطيكم إياه.

ولا يزال الحراك في أول المعركة. صعوبتها متأتية من كون النظام الذي تطالب بإسقاطه، ساقطاً من زمان ومشلولا، والمشكلة بفقدان البدائل الحاضرة، برغم جهوزية البدائل النظرية المحتاجة إلى تطوير الحراك وتقوية عضلاته ليصبح قادراً على قلب الطاولة، بعد مسار عميق الغور، بدءاً من تحت إلى فوق… البداية من تحت مضمونة، التطلع إلى فوق راهنا سابق لأوانه، ولكنه ضروري. لا وطن مع هؤلاء. لا دولة مع العصابة، لا سلطة غير سلطة منتخبة، وفقاً لقانون خارج القيد الطائفي.

لذلك، المعركة طويلة. معركة إلزام هذه الطبقة، أو ما تبقى منها في ركام النظام، أن تستجيب لما يريده الحراك، بدءاً بالمشاركة الفاعلة في إنتاج الحلول التي يحتاجها الشعب؛ القمامة أولاً، الكهرباء دائماً، وكل ما يمت إلى قطاع الخدمات بصلة الإذلال والتبعية.

الصعوبة التي تواجه الحراك، متأتية من كون النظام السياسي «غير شغّال». لقد أفلس وتوقف عن إنتاج ذاته. إنه عاقر اليوم، ولا إمكانية لتخصيبه من الخارج المشغول بحرائق المذاهب والدول وأنظمة الاستبداد ووحوش الآيات. لا رئاسة ولا حكومة ولا مجلس نيابياً ولا موازنة ولا حياة لمن تنادي. مطلب الاستقالة لا جدوى منه. مطلب الانتخابات النيابية الشرعي غير ممكن، من دون قانون جديد، ترفض هذه الطبقة جعله قانوناً تمثيلياً ديموقراطياً خارج القيد الطائفي. لا يشنق المرء نفسه بأنشوطة يعقدها بيديه.

إن أفدح ما يواجهه الحراك، أن لا سلطة لإسقاطها، لأنها ساقطة، ولا بديل عن سقوطها. وأن أي انتخابات من دون قانون جديد على قاعدة النسبية، ستعيد انتاج هذه الطبقة بالذات مع ورثتها من الأبناء والأصهار…

التعويل على البلديات صعب. البلديات أجهزة تابعة لأحزاب السلطة وتياراتها الطائفية. لا تجرؤ على الاستقلال النسبي. لقد انتخب لها ان تكون ممثلة الزعامات، لا ممثلة البلدة أو المدينة… انها مشاع سياسي. والبلديات الشاذة نادرة. التعويل على صحوة القضاء ليمارس دوره اللاسياسي وضد السياسيين الفاسدين، أيضاً مشكوك بأمره. ومع ذلك، لا بد من حفر الصخر…

ولا يأس بعد اليوم.