IMLebanon

ما موقع لبنان في «الثالوث الإقتصادي المستحيل»؟

بينما يتعافى الاقتصاد العالمي، ولو بوتيرة بطيئة، من أمراضه المختلفة، يبدو أن النظام المالي الدولي في حاجة الى المزيد من المراقبة سيما العملات وأسعار الصرف.

يتوافق المحللون الاقتصاديون والسياسيون بمن فيهم الرئيس الاميركي اوباما نفسه، على ان سعر صرف «اليوان الرينمنبي» (العملة الصينية) يعرقل الانتعاش العالمي. أضف الى ذلك مشاكل اليونان والتي تسبّبت في التساؤل عمّا اذا كانت العملة الاوروبية «اليورو» تجربة فاشلة واذا ما كان افضل ان تحافظ الامم الاوروبية كل واحدة منها على عملتها.

ويبدو ان التفكير في هكذا قضايا ينطلق مما يسميه الاقتصاديون Trilemma او «الثالوث المستحيل» وهو مصطلح برز في القرن السابع عشر. ووفقًا لقاموس اكسفورد الانكليزي يصف حالة شخص يواجه الاختيار بين خيارات ثلاثة لكل منها مشاكل لا بد منها- والـ Trilemma في المالية الدولية تنطلق من حقيقة انه وفي معظم الدول يودّ صناع السياسة الاقتصادية تحقيق اهداف ثلاثة في الوقت نفسه علما انه لا يمكن تحقيقها كلها في نفس الوقت، وهي كما هو معلوم كما يلي:

استقرار سعر الصرف

سياسة نقدية مستقلة

تدفقات حرة لرأس المال

وقد يتساءل البعض لماذا؟

الجواب في منتهى البساطة سيما وانه لا يمكن تخطي القوانين الاقتصادية، ومن المستحيل ان تستطيع البلدان السيطرة على السياسة النقدية وسعر الصرف مع السماح بتدفق رؤوس الاموال في حرية. هذا الواقع يعطي السلطات الاقتصادية في الدول الكثير من الخيارات ولكن وبالمطلق اذا قامت باختيار اثنين من هذه الاهداف فمنطق الاقتصاد يجبرك حتما على التنازل عن الثالث.

لذلك وعلى سبيل المثال، اذا كان الهدف استقرار اسعار صرف العملات، فان سعر صرف متقلب يدفع الى مزيد من المضاربة بينما معدل مستقر يسهل على الاسر والشركات المشاركة في العملية الاقتصادية والتخطيط للمستقبل. وهنا نستطيع ان نشير الى أن لبنان خير مثال على ذلك سيما وانه من الواضح ان هدف البنك المركزي ومنذ العام ١٩٩٢ هو استقرار سعر صرف الليرة بغض النظر عن التقلبات الدولية.

ويشكّل هذا الخيار محاولة لاستبعاد المضاربة وتمرير العملية المالية بهدوء. وكما يعلم الجميع كان خيار السلطات اللبنانية سعر صرف ثابت مع حرية تدفق رؤوس الاموال بما يعني اننا اخترنا ألا يكون للسياسة المالية اي دور فاعل. ودور المركزي كان فقط المحافظة على سعر الصرف، وحين حاول التحكم في أسعار الفوائد ودفعها عاليا في القرن الماضي أدّى ذلك الى شلّ الاستثمار وزاد مديونية الدولة للمصارف.

في المقابل، نرى أن دول العالم المتقدم تتعاطى مع هذه الـ Trilemma بطريقة اكثر نضجا وتستجيب للتطورات بليونة مختلفة. على سبيل المثال، اختارت الولايات المتحدة الاميركية حرية انتقال رؤوس الاموال مع استخدام السياسة النقدية كأداة للمساعدة في استقرار الاقتصاد مع ما يتبع ذلك من زيادة المعروض من النقود وخفض اسعار الفوائد من اجل تحفيز النمو والمحافظة على العمالة واستقرار الاسعار.

وعلى النقيض، تعاطت الصين بأسلوب مختلف مع هذه الـ Trilemma اذ ان البنك المركزي فيها يحاول السير بالسياسة النقدية مع سيطرة كاملة على سعر صرف العملة مما يعني انه تنازل طبيعيا عن حرية تدفق رؤوس الاموال من والى خارج البلاد. كذلك نرى أن اوروبا اختارت طريقا ثالثة وأزالت تحركات العملات كلها مع حرية تنقل رأس المال مما يعني انها تخلّت عن سياسة نقدية محتملة.

السؤال الذي يطرح نفسه : هل هناك طرق أفضل للتعاطي مع هذه الـ Trilemma؟

قد يكون التفضيل الاميركي لأسعار صرف عائمة تحددها قوى السوق وراء الكثير من الانتقادات للسياسة المالية في الصين، وايضا التشكيك في اوروبا عندما بدأت السير نحو عملة موحدة في أوائل التسعينات، ويبدو ان تشكيكهم في محله سيما بعد ما حصل في اليونان مؤخرا. هذا الدافع الاميركي حديث نسبيا سيما وان اميركا شاركت في نظام Bretton Woods الذي يحدد اسعار الصرف بين العملات الرئيسية.

لذلك قد يكون من المهم القول ان افضل طريقة لحل هذا الثالوث المستحيل هو بالسعي للحفاظ على فتح حسابات مالية والسماح بتعويم سعر الصرف انما الخيارات قد تبقى غير واضحة تماما سيما وان العديد من السلطات مازالت تتدخل في سوق الصرف الاجنبي والسعي الى تراكم مبالغ كبيرة من العملات الاجنبية خلال فترات تدفقات رؤوس الاموال حتى عام ٢٠٠٨.

وقد يكون اهم الدوافع هو بناء احتياطي من اجل مواجهة ضغوط مالية محتملة على سعر الصرف. لكن من المؤكد انه من الصعب القول متى يكون الاحتياطي الاجنبي كافيا والتجارب الاخيرة توحي بأننا لا يمكننا الاعتماد على بعض القواعد الشعبية التي تقول ان ١٠٠ بالمائة من الاحتياطي الاجنبي لتغطية الديون القصيرة الاجل هي كافية (Guidotti Greenspan rule).

لذلك الاكتفاء بالقول ان العملات محصنة بقيمة الاحتياطي في البنك المركزي غير دقيقة سيما وان تراكمها يؤدي الى تغيرات في حجم الكلفة وتكوين رصيد البنك المركزي والخسائر المحتملة مثل التغيرات في اسعار الصرف او قيمة اصول الاحتياطي.

هكذا تكون خيارات الدول مختلفة و مواجهتها لهذه الـ Trilemma متناقضة انما يبقى القول ان ما تتبعه المصارف المركزية حاليا في الدول الناشئة من زيادة احتياطها لم يكن ناجحا او بالأحرى كافيا طوال الوقت سيما بعد انهيار ليمان برازرز.

ومن المستغرب اقتصاديًا ان تكون السياسات النقدية والضريبة بعيدة كل البعد من بعضها البعض في بعض الدول سيما في لبنان لأن من الطبيعي والمنطقي القول ان هاتين السياستين متكاملتين، والنواقص تظهر في عدم التوافق على الرأي ومحاولة اظهار دور المركزي بأنه فقط لتحديد سعر الصرف بينما دول العالم المتقدم ترى فيه سياسات مالية وعمالة وتضخم وسياسات تجارية وغيرها من امور اكثر شمولية تحيط بالعملية الاقتصادية ككل.