IMLebanon

أين الكهرباء أم أين اللبنانيون؟

اختفت مشكلة الكهرباء. لم تعُد على جدول أعمال الحكومة. الإعلام انصرف إلى ملفات جديدة ومثيرة جداً. الوزارات والوزراء والمعنيون مطمئنون إلى حسن النسيان. المسؤولون ارتاحوا من ساعات التقنين. اللبنانيون، غفروا وتدبّروا مشقة العتمة بفواتير المولّدات. توقفوا عن الشكوى. اعتادوا على نظام «الفاتورتين». المولّدات تقوم مقام خصخصة القطاع، بالاقتطاع المناطقي. اقتطاع مدعوم ومرسمل بالإقطاع الطائفي. طبقة أصحاب المولدات محظيَّة ومحمية. تتحكّم بالأسعار بأرباح مجزية. أثرياء حرب على الكهرباء. ليس غريباً أن يكون اللبنانيون على دين رؤسائهم وزعمائهم. الحجة الفضلى عندهم: «فالج لا تعالج».

تجدّدت مشكلة النفايات. لم يعد «الحراك» إلى الساحات بذخيرة الاستمرار. اكتفى «السكان»، نزلاء البيوت، بالقرف والمتابعة. سدُّوا أنوفهم وأفواههم. تركوا لأحزاب انتهازية ووزارات وقبضايات الصفقات مهمة تلفيق الحلول، أو وظيفة تدبير المطامر، على أمل أن ينسى الجميع أن النفايات كالكهرباء، معرّضة للنسيان. لا عجب إن برهن اللبنانيون على أنهم مؤمنون حقاً بالحجة الفضلى: «فالج لا تعالج».

انتشر منذ مدة خبر اكتشاف أكبر مقبرة في لبنان، تمتدّ من السهل إلى البحر بطول 170 كلم، وعرض يتّسع لقرى وبلدات ومزارع وبشر كالسيل، يصل تعدادهم إلى المليون. لم يكترث أحد عن جدّ. مقبرة البحيرة في القرعون مفزعة ومقرفة ومذلة. المقيمون حولها برسم التسمُّم والموت بالسرطان. مزمنة هذه المقبرة المفتوحة على نفايات مثقلة بالأوساخ والقوارض والتلوث والأمراض والبشاعة والروائح الزنخة. الزميلة في «السفير» سعدى علوه عانت مشقة الوصف بدقة. سمَّت الأشياء بأسمائها: قرف، زبالة، جثث، مياه صفراء، خضراء، فوسفورية، موت الحياة المائية والنباتية، انعدام الأمن الصحي. عارٌ بشهرة الانتشار. والسياسيون يصلحون للفرجة عندما يتحدّثون عن مشاريع «إنقاذ الليطاني». يشبهون جنازة مافيوزية.

في الليطاني، كل ما كان جميلاً صار قاتلاً. ليس للماء زرقة اللون. لا ينتسب الماء في النهر إلى نقاء الينابيع. كل ما ينفق من ماشية وحياة، يجد مثواه في البحيرة الجاثية على جثتها المتعفنة.

وبرغم ما يعانيه أكثر من مليون لبناني على ضفاف «المقبرة»، لم يخرج أحد شاهراً قبضته. ينام المسؤولون باطمئنان. لا يقلق راحتهم هاتف استنكار أو طرق باب أو رأس بندورة أو رشقة بيض. قطعان بشرية تُقاد بعصا الطائفية ونصائح الزعماء. وكلما كبر القطيع، طالت عصا الراعي. يتصرّف الجميع وكأن كل شيء على ما يرام. لعل الجميع يؤمن بأن الحجة الفضلى هي «فالج لا تعالج».

فاتورة النصب والسرقة والنهب والصفقات واحتلالات المشاعات، براً وبحراً وجواً (اتصالات) طائلة جداً. الفاتورة التي يدفعها اللبناني كي يستمر بائساً، يائساً، حائراً، صابراً، عاجزاً، كبيرة جداً. ديونه بالمليارات. يدفعها من جيبه ومن عرقه أو من حصته التي يحصل عليها من اشتراكه بنظام الفساد السياسي والمالي والديني والتربوي والزراعي والصناعي… لا مبالغة في القول إن حزب الفساد في لبنان هو الحزب الأقوى، ولا يقوى عليه أحد. يحصل كل ذلك واللبنانيون مطمئنون إلى الحكمة الملعونة: «فالج لا تعالج».

في مدار التشبيه يمكن تصوير «أبطال وحرامية لبنان» بالقديسين الذين يتقدم منهم «المؤمنون» بالنذور والأضاحي… بئس المصير والمآل.

لا أحد ينتظر انتفاضة أو حراكاً بديمومة النضال. مستحيل أن تُقدِم طبقة «احتلال المؤسسات» على قطع يدها الطويلة على المال العام والأملاك العامة والمصير العمومي. أحزاب اليسار، صارت بلا يساريين. أكثرهم خارج أحزابهم. في كل وادٍ يهيمون. أحزاب التغيير، بحاجة إلى تغيير. تقادم عهدها وانطفأت روحها. الدم الجديد مفقود. الهجرة من الأحزاب غير مبرّرة، ولكنها متزايدة. ماذا لو عاد الحزبيون إلى أحزابهم؟ لديهم مهمات طائلة تخلّوا عنها. أحزاب التغيير، كالنقابات، لم تعُد تعبيراً عن قضايا المنتسبين الغلابى. باتت واجهات سياسية لقوى طائفية. هل يتمرّد الشيوعي على ذاته ويستعيد معاركه الاجتماعية، بدقة التصويب وصرامة الموقف بعديد دائم، يتخطّى التظاهر؟ النضال اللاعنفي الصارم أشدّ تأثيراً من عنف يفضي إلى فتنة. فلتعطَ التجربة هذه حظها.

كأن لعنة حلَّت على اللبنانيين. لا. المسألة ليست ميتافيزيقية. اللبنانيون أوكلوا أمورهم إلى من يسيء إليها. ليس عندهم بديل. الاستبداد يخلق ثواراً أحياناً، ويخلق عبيداً أحياناً. «الاستبداد الناعم» في لبنان، خلق عبيداً يتذمّرون على استعبادهم بالنقيق والشكوى والاعتصام بحكم «فالج لا تعالج».

الطائفية مزواجة، مَن يطلب يدها تأخذه. الإقطاع اللبناني المزمن، والإقطاع المالي المستجدّ، والإقطاع السياسي الحديث، صادَرَ الطوائف وأخذها مطيّة. والطائفية رخوة الأخلاق، تنام في أي فراش تداعَبُ فيه غريزتها. تتباهى الطائفيات في لبنان بتلبيتها لشبق السلطة وشهوة الحكم وحبّ المال. وللطائفية سحر الإغراء. جماهيرها مسحورة. تتبعها أنّى توجَّهت. أتباعها من صنف العبيد المصابين بلوثة التبرير. يرون في الطائفية مرضاً، ويعاقرونها لأنها خلاصهم. شيء مضادّ للمنطق. أو، «وداوني بالتي كانت هي الداء».

أحياناً، يتحدّث الناس بمنطق حقيقي وصائب. يتساءلون عن المحاسبة والمساءلة والقضاء. معهم حق. لكنهم لا يدركون أن مثل هذه المطالب المحقة، لا يمكن تأمينها إلا في نظام ديموقراطي صرف، مطهّر من الانتماءات القبلية. الديموقراطية والطائفية ضدان. الطائفية والمحاسبة ضدان. ولبنان، وفق آلية ما آلت إليه أحواله، لا ينتمي إلى منظومة الدول الديموقراطية، حيث من مهمات السياسة إيجاد الحلول للكهرباء، والماء، والتلوّث، والتربية، والتنمية والهجرة والـ… إلى آخره. النظام الطائفي يثير مشكلات وقضايا وفضائح ويراكمها، لا يحلها. الدليل، أن لا حلّ لأي معضلة صغيرة في لبنان، فكيف بقانون انتخابي، وسلطة حاكمة، و.. و.. وانتخاب رئيس للجمهورية المنكوبة.

خاتمة القول ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في جريدة «الشهباء»، نقلاً عن كتاب جان دايه «صحافة الكواكبي»: «إذا تتبّعنا تقلب أحوال الهيئة الاجتماعية بحلب منذ سقوط الدولة السلجوقية منها إلى الآن، يظهر أنها لم تصادف سياسة حسنة إلا من عهد قريب. نستنتج أن ما نشاهده بكل أسف من استيلاء الفساد على الفكر العام فيها، يتعلق بأمر السياسة. مرور أربعة قرون وهم في خيم، جعلهم يألفون أموراً كثيرة مضرّة. وبالتمادي صارت طباعاً لهم يحافظون عليها».

ختاماً: أين الكهرباء؟

لقد تطبّع اللبنانيون بالفساد، فباتوا يبايعون العتمة السياسية. هل نحتاج إلى أربعة قرون، أو أربعة عقود أو أربعة أعوام، لنهتدي إلى غير الطائفية؟ التشاؤم موضوعي. آلان بيرنيت يقول إن قانون التقدم نادر. التخلف هو القاعدة… لعله على حق في بلادنا ومشرقنا!

ختاماً: أين الكهرباء أم أين لبنان؟