IMLebanon

من وفّر الأمن لخاطفي ريشا في وضح النهار؟

في لبنان، لن يشفعَ فيك عمرُك أو وضعك كي لا تكون مشروع ضحية، فهنا سواءٌ كنتَ تلميذاً ذاهباً إلى المدرسة أو رَجلاً كهلاً تعمل كسباً للقمة عيشِك، سيقف المجرمون لك بالمرصاد. هنا لا تَردع كاميرات المراقبة متعطّشي الشرّ من تنفيذ مخطّطاطهم، ولا يخيف رجالُ الأمن متعبّدي المآثم من ترجمة فكرهم السادي إلى أفعال. هنا المجرم سلطان، والضحية… مواطن. هنا وطنٌ عاش فيه سَعد ريشا مؤمناً بعدالته، وهنا خُذل مرّةً أخرى.

ككلّ يوم، توجّه سعد، إبن الـ74 عاماً، الى محلّه في قب الياس، لا يحمل سلاحاً، لا يرافقه رجال أمن ولا ينزل من سيارة مصفّحة… ولِمَ قد يتخّذ هذه الإجراءات؟ فهل إنّ كلّ رجل مرتاح مادياً ويملك محلاً تجارياً بالجملة عرضةٌ للخطف والابتزاز لدفع المال؟ «أكيد لأ».

تَرجَّل من سيارته في وضح النهار حاملاً كيساً أسود وماشياً ببطء نحو محلّه… ولِمَ الهرولة؟ فهل يعيش في بلد المافيات؟ هل يلحق به أحد ليخطفه في وضح النهار على بُعد أمتار من حاجز الدرك، وفي حضرة كاميرات المراقبة؟ «أكيد لأ».

لم يخَل لإبن الـ74 عاماً أنّ «الوقاحة» وصلت بالخاطفين لينفّذوا جرائمَهم في وضح النهار ورغمَ مراقبة الكاميرات، وعلى بُعد أمتار من حاجز الدرك… لأنّ «غطاءَهم السياسي» أكبر من أيّ كبير. «أكيد إيه»، نعيش في بلدٍ لا أمن فيه، و»أكيد إيه» إبن الـ74 كما إبن الـ9 ، لا غطاءَ فوق رأسه، و»أكيد إيه» لبنانُنا عبارة عن دولة مشَكّلة من مجموعة دويلات.

في آذار الـ2014 خُطف إبن رجل الأعمال ابراهيم صقر الذي كان يبلغ من العمر 9 سنوات آنذاك، إنتفاضة أبناء زحلة لم تَردع الخاطفين من تكرار فعلتِهم، فخَطفوا أمس إبن الـ74. بكلّ بساطة، تَرجّلوا من سيارة «الجيب» التي كانوا يستقلّونها، و»على عينَك يا تاجر» فعلوا فعلتَهم في وضح النهار وفي شارع مكتظّ بالمارّة.

يُجمع أبناء زحلة على أنّ «الأمور أصبحت فلتانة، فهذه ليست العملية الأولى من هذا النوع في البقاع عموماً وفي زحلة خصوصاً»، وفي صوتٍ تحمل نبرته غصّةً عميقة يقول أحد أقارب سعد لـ«الجمهورية»: «هل يجب على المواطنين اللجوء الى الأمن الذاتي؟

أن يحملوا أسلحةً ويوظّفوا مرافقين؟ قلبُ سعد لا يحتمل هكذا عملية، وضعُه الصحّي سيّئ جداً، وفي حال بقيَ مِن دون دوائه وقتاً طويلاً يسوء أكثر، فهو يتناول نحو 18 حبّة دواء يومياً، ويعاني من مشاكل في شرايين القلب، بالكاد يستطيع المشيَ، وكلّ تصعيدِنا هو ليعود لنا حيّاً».

سعد الأب لشاب و 4 بنات مؤمنً ومتعبّد لربّه، وكلمة «يا ألله» لا تفارق ألسنةَ أقاربه وأصدقاء العائلة الذين لا يتمنّون شيئاً إلّا أن يعود لهم سالماً، ويؤكد أحدُهم أنّ «هذه العملية لم تأخذ الطابَع الطائفي، بل إنّ أبناء بريتال أقاموا وقفةً تضامنية معنا، فالأزعر لا طائفة له ولا لون، ولن نسمحَ لأحد بأن يَخلفنا مع إخواننا المسلمين»، مضيفاً: «الناس التي نزلت الى الطرقات كانت إنذاراً لكلّ مَن قد يمسّ بأبناء زحلة، فهي لم تعُد تتحمّل وضغَطنا عليها لردعها عن ردّات الفعل».

خطط إجرامية متجدّدة

لا يتردّد الخاطفون في تحديث أساليب عملياتهم بشكلٍ دوريّ، فبعدما أصبَحت الأجهزة الأمنية تتعقّب «داتا» الاتصالات وكاميرات المراقبة، باتوا يَهربون في السيارات التي ينفّذون بها عملياتهم نحو بلدات متفلّتة من المراقبة أو نحو سهول يكون لهم فيها عملاء، حيث يبدّلون السيارات التي غالباً ما تكون مسروقة.

وبحسب مصدر أمني لـ«الجمهورية» فإنّ «الخاطفين باتوا يعلمون آليّةَ عمل الأجهزة الأمنية، ما صعّبَ عمليات التعقّب، فيوقفون عمليات الاتصال في اللحظة التي يتمّ فيها الخطف، ويجرّدون المخطوفَ من وسائل الاتّصال تفادياً لتعقّبِ رقمِه، لذلك تسعى الأجهزة الأمنية للقيام بجهدٍ مع جهات مقرّبة من هذه المجموعات التي باتَت معروفة، توازياً مع عملِها الأمني، علماً أنه في كلّ مرة تتدخّل جهة حزبية فاعلة لإطلاق سراح المخطوفين».

ويضيف المصدر: «هؤلاء الأشخاص ليسوا في مكان معيّن، بل إنّهم منتشرون في الجرود، وهناك مذكّرات توقيف بحقّهم وملاحقون قضائياً، وهناك نحو 15 ألف منهم، متهّمون بقضايا مختلفة، هاربون في الجرود، حيث هناك دولة مستقلة»، مشيراً الى أنّ «هذه الشبكات منظّمة وهدفُها جمعُ الأموال».

إنتفَضت زحلة وتوحّدت ضدّ الخاطفين بأهلها وسياسيّيها وأحزابها ورجال الدين، وساد حالٌ من الترقّب في البقاع، وفي حين طوّق الجيش مداخلَ بريتال من كلّ الجهات بحثاً عن سعد، أوقفَت الأجهزة الأمنية والدَي المتّهمين وهما «م.ص» و«ق.ش.أ» للتحقيق معهما، بالتوازي مع إحراق بعض الأهالي للإطارات على المدخل الجنوبي لزحلة واعتصام البعض الآخر على طريق زحلة – كسارة بعد أن كانوا قد قَطعوا طريق ضهر البيدر – شتورا لبعض الوقت، كذلك قطِعت طريق زحلة – ترشيش قرب مدرسة عبرين، ومفرق مكسة العالي بالإطارات المشتعلة، وعملت جرّافة على مفرق جديتا العالي بإضافة أتربة على الطريق المقطوعة بالإطارات، وقد نُصبت الخيَم احتجاجاً، وصَدر قرار بإقامة إضراب شامل في زحلة في حال عدمِ الافراج عن المخطوف، فيما أكد الجيش أن لا تهاون في هذا الموضوع وسيَدخل كلّ منزل يَعتبره موضعَ شبهة، ولا مناطق محمية ولا حجَج واهية تحت عنوان العشائر.

وتوجّه الموفد بسّام طليس الى بريتال بطلب من رئيس مجلس النواب نبيه بري، للتواصل مع الخاطفين عبر وسطاء، وعُلم أنه استمر بمفاوضاته حتى ساعات متأخرة من الليل، وهذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها بالوساطات، حيث ينجح دائماً بالتوصّل الى إطلاق سراح المخطوفين.

وتقول المعلومات لـ«الجمهورية» إنّ «الضغوط التي مورسَت خلال النهار من خلال إقفال الطرقات وتوقيف والدَي الخاطفين والمفاوضات، قد تكون سبباً في تسريع اطلاق سراح سعد وعودته الى أهله.

إذاً اليوم سعد ريشا، وغداً أحدٌ لا يعلم على مَن قد تقع القرعة، طالما إنّ الفلتان سيّدُ الموقف في مناطق يَعتبر أبناؤها أنّ من حقهم إقامة حكمٍ ذاتي. اليوم سعد ريشا وغداً والدُ كلّ مواطن أو إبنُه أو ابنتُه. اليوم عملية خطف، وغداً ربّما قَتلٌ أو إهدارُ دم، طالما إنّ العصابات تَحكم وتحتمي بجهات سياسية تستعمل نفوذَها كغطاءٍ لمجرمين يتعطّشون للشر.

نجحت القوى الأمنية في تطويق المتّهمين، لكنّها نجحت أكثر في رصدِ أسلوبهم وضربهم على الوتر الحسّاس من خلال توقيف والدَيهم، علماً أنّ مَن يخطف إبنَ الـ74 و«يجَرجره»، يَصعب عليه فهمُ معنى الأبوّة.