IMLebanon

لماذا لا يستقيل عون من الحكومة؟!

ليس سراً القول أو الكشف، أنه منذ ليل السبت 22 آب الماضي، لحظة سقوط أول نقطة دم من المواطنين في ساحة رياض الصلح، بدأ نقاش داخل تكتل التغيير والإصلاح، وداخل التيار الوطني الحر، تحت عنوان: لماذا لا نستقيل فوراً من الحكومة؟

كانت الأفكار المتداولة تسيل كالتالي: أولاً، لم يبن ميشال عون تاريخه وظاهرته وهالته إلا لأنه كان دوماً متطابقاً في فكره وقوله وعمله مع نبض الناس. لم يأت بشرعيته من إخراج قيد عائلي ولم يستصدر براءة زعامته من دفاتر الشيكات، ولم تزكّه وريقات السفارات. جاء الرجل من إحساسه بوجع الناس وجوعهم، بتوقهم وقلقهم، بتطلعهم وآمالهم والآلام والمعاناة. ثانياً، هي حالته نفسها بنت هذا الرحم الشعبي لا غير. لم يبن ميشال عون حزباً تنظيمياً على طريقة بيار الجميل، ولا حزب ائتلاف زعامات مناطقية على طريقة كميل شمعون، ولا حزب كادرات على طريقة ريمون إده. كل مافعله أنه كان يشعر بالناس، فيعبر عنهم، فينزلوا إلى الشوارع والساحات مؤيدين له، أو لأنفسهم. حتى صاروا تياره، من دون إرادته ربما، ومن دون علمهم على الأرجح. تيار عون لم يكن يوماً وليد الاجتماعات التنظيمية، ولا ابن المكاتب أو القاعات أو مقاعد الانتظار. بل هو حالة عفوية ارتجالية ولدت في الساحات عامي 1989 و1990، وتكرست بدم النضال السيادي في الشوارع طيلة خمس عشرة سنة، وانتظرت ولادتها الثانية في الساحة أيضاً في 7 أيار 2005 يوم عاد رمزها، وظلت تلد مسؤوليها وتبايعهم الشرعية والرموزية والمسؤولية، على قاعدة نضال الشارع وعرق السواعد ودم القلوب وخفق الصدور.

ثالثاً، في كل العالم، وفي لبنان خصوصاً، ثمة مدرستان للسياسة وللسياسيين. مدرسة أولى تعتبر أن العمل في الشأن العام هو نشاط سلطوي يتلخص بمقومات محددة، أبرزها امتلاك دارة كبيرة تتسع شتاء لعشاء يضم خمسين شخصية كبيرة على الأكثر، وأخرى صيفية – يفضل أن تكون ممتدة على حديقة من الغازون موازية لمستوى صالوناتها – مع موازنة مالية كافية لفتح الاثنتين بشكل دائم. يضاف إلى تلك المقومات، «ريبيرتوار» شخصي جداً، لأرقام هاتفية لبضع سفارات ودزينة دبلوماسيين وكم «جورنالجي». فتصير السياسة تركيبة بين تزلف سفير وتسويق خارج وتغطية مستكتبين وقبول طبقة الألف حساب مصرفي التي تملك تسعين في المئة من ثروات البلد. هي مدرسة سياسة التهريبة بين بطن عشاء ودعم ظهر أجنبي …

لم يأت ميشال عون من هذه يوماً. ولم يألفها قط. جاء الرجل من مدرسة ثانية، جوهرها أن السياسة والشأن العام نشاط إنساني، محوره خير البشر، وهدفه تحقيق هذا الخير، في المسكن والعمل والخبز، تماماً كما في الكرامة والحرية.

رابعاً، بات واضحاً حتى اليقين، أن دخول ميشال عون في تركيبة السلطة القائمة، منذ ساهم في ولادتها في كانون الثاني 2014، كان خدعة. والأهم أنها تحولت خدعة مكلفة وباهظة. لا بل صار مؤكداً أن كل الهدف من تركيبة حكومة تمام سلام منذ قيامها، كان ضرب صدقية عون، ونزع مبدئيته، وإسقاط رمزيته، وصولاً حتى إذلاله على مراحل. في مرحلة أولى يتم الاتفاق معه على مسار كامل، ثم يتم الانقلاب عليه. بعدها يتفق معه على تعيينات قيادة الجيش، ثم يغدر به. وفي كل المراحل توحى إليه بالمبادرات، حتى متى وافق عليها انقلبوا عليها وعليه … كل ذلك وسط العمل الدؤوب لماكينة ترويجية هائلة، توزع الشائعات والأخبار والافتراءات والتجنيات… حتى يصير في انطباع الناس، واحداً مثلهم. يساعدهم في ذلك طبعاً، بعض من الصور، وبعض الانطباعات، واستحقاقات التيار الداخلي وكل ما رافقها وأعقبها وعلق بها من رواسب وذيول.

وسط هذا المشهد المتكامل، جاء قبل أسابيع عدة وقبل كل الأزمات الراهنة، من يكشف لميشال عون أن هناك خطة متكاملة قد وضعت للإجهاز عليه: هكذا سيوقعون بينك وبين الجيش. وهكذا سيحاولون ضرب تيارك. وهكذا بالتفصيل سيذهبون حتى محاولة ضربك داخل بيتك. صارت اللعبة مكشوفة، فأعلن الاستنفار لمواجهتها خطوة خطوة، حتى مرت بسلام. فانفجرت عندها في الشارع، وبدأ إطلاق النار السياسي والإعلامي عليه مباشرة.

في 22 آب مساء، ظهرت لحظة مختلفة. كان من الممكن البحث في بيان مفاصله كالتالي: أيها اللبنانيون، منذ دخولنا هذه السلطة، لم نكن لحظة منها، ولم تكن ثانية منا. لم نقبلها في بند، ولم تتقبلنا في جلسة. غير أن مسؤوليتنا الوطنية، في ظرف مصيري، فرضت علينا البقاء فيها، صوناً عن وطن لا تمسكاً بمقعد، وحرصاً على دولة لا بحثاً عن حصة. أما وقد أضافت هذه السلطة إلى موبقاتها سفكها دم اللبنانيين وقمعها شبابهم وإطلاقها النار على مواطنيها ونقلها الأسلاك الشائكة من حدود العدو وداعش إلى قلب بيروت، ورفعها جدار العار حول سراياها… فها هي استقالتنا ملك الشعب، وها هي أقدامنا معه في ساحاته.

كانت الخطوة سهلة. وكان مربحة حتماً. حتى أنها كانت ستجر حتماً خروج حزب الكتائب من الحكومة أيضاً. وهو ما كان مؤكداً. لماذا لم يقدم عون على الخطوة؟ لأن المعلومات والوقائع والتحليل وكل ما يملك الرجل، كان يشير إلى أن المطلوب كان جر البلاد إلى سيناريو ليبيا. الفوضى التي تدخل بيروت ربيعها العربي المتأخر. ربيع ليبي ــــ لبناني، يمر بضرب المقاومة، بعد زجها في زواريب بيروت، ويمر بكل عواصف «الربيعات» العربية وأعاصيرها، ليعود بعدها النظام نفسه، بطبقته نفسها، بسوكلينها وسوليديرها ومنطقتها الحرة وأملاكها العامة المنهوبة ودينها العام المسروق … لكن من دون مقاومة ومن دون تغيير.

من يقدر على إجهاض المؤامرة؟ أمثال شربل نحاس في الساحة. وميشال عون في ساحة أخرى، ليست مناوئة، بل مكملة. على أن يكون عنوان الساحتين: الشعب يريد الانتخاب الآن الآن!