IMLebanon

لماذا يعتقد «الحزب» أنّ الحرب الإسرائيلية آتية؟

قبل نحو ثلاثة أشهر، تعالى الهمس داخل أجواء قيادة «حزب الله» عن إمكانية أن تكون إسرائيل تفكّر فعلياً بشنّ حرب ضد «الحزب» في لبنان. ثمّ خلال الفترة الراهنة قرّر «الحزب» إخراج هذا التحسّب من نطاق الهمس إلى نطاق التصريح عنه. وبحسب أجواء في «الحزب» فإنّ قرار أمينِه العام السيّد حسن نصر الله بإجراء مقابلة مع قناة «الميادين» أمس كان له هدفٌ أساسي، وهو القول لتل أبيب «إنّنا نعرف بماذا تفكّرين ونحن يقِظين وجاهزين لردّ قوي».

ضمن ترسانة «حزب الله» المخصّصة للحرب مع إسرائيل، توجد صواريخ الحرب النفسية، والأوامرُ بإطلاق هذه الحرب والتعبير عنها هي في يد السيّد نصرالله حصراً. لقد هندسَ الامين العام لحزب الله على مدى سنوات ترسانة الردع النفسية، وهي تعتمد على ما يمكن تسميته «منظومة الوعد الصادق»، وترجمتها العملية إقناع العدو عبر تجربته في الميدان مع نصرالله، بأن الاخير حينما «يعِد بالردع يفي، وحينما يهدّد بالرد يرد، وحينما يتحدث عن مفاجآت عسكرية فإنه يعني ما يقول».

الحرب النفسية في حزب الله ضد إسرائيل تعتمد أساساً على إيحاءات الحزم في شخصية نصرالله، ونجح الحزب في إيصالها الى ضبّاط أركان القيادة الاسرائيلية الكبار وإلى نحو دزّينة من مسؤولي الاجهزة الامنية والوزراء الذين يتحلّقون في العادة حول طاولة اللجنة الوزارية الاسرائيلية المصغّرة المولجة اتخاذ قرار الحرب.

والحقّ يُقال إنّ الحزب نجح بنسبة عالية في تركِ انطباع لدى قادة المستويين الاستراتيجي الأمني العسكري والسياسي الإسرائيلي، بأنّ نصرالله ليس واحداً من سلالة البيئة السياسية التي تتوارث جينات «أحمد سعيد» المصري أو «محمد سعيد الصحّاف» العراقي. في اختصار إنّه يعني ما يقول.

هذه المرّة يَضغط نصرالله على زناد إطلاق منظومة «الوعد الصادق» الصاروخية النفسية، ليردع إسرائيل عن السير قدُماً في تفكير يعتقد الحزب أنّه يتفاعل حالياً بجدّية لشنّ حرب جديدة عليه. ولكن ما هي المعطيات التي تجعل نصرالله يستشعر فعلياً بوجود خطر من هذا النوع؟

داخل «حزب الله» توجد نظرية عادةً ما يتمّ الاستناد الى منهجيتها لصوغ تقدير موقف لتحديد نسبة احتمالات نشوب حرب مع اسرائيل. يطلق على هذه النظرية تسمية «الفرص في مقابل المخاطر».

وتفعيل تطبيقاتها يتمّ من خلال إجراء محاكاة داخل الحزب ينفّذها متخصصون بمتابعة الشأن الاسرائيلي، وتتركز على طريقة تفكير صنّاع قرار الحرب في اسرائيل، وأسلوبهم في اتخاذ القرار. في نظر الحزب أنّ هؤلاء يجرون دائماً عملية قياس ومقاربة بين فرص شنّ الحرب على الحزب والمخاطر التي تنتج منها هذه الحرب على اسرائيل.

وفي ايّ لحظة يجدون فيها انّ الفرص اكبر بنسبة لافتة من المخاطر، فإنهم يوصون بشنّها. في الحزب يَرَوْن انّ المستوى الاستراتيجي في حكومة نتنياهو في هذه اللحظة يعتقد بأنّ ميزان الحرب على الحزب تميل فيه كفّة الفرص لمصلحتها على كفّة المخاطر ضدّها.

وتتجمّع في كفة الفرص حالياً من منظار إسرائيلي العوامل الآتية:

1- القوة العسكرية لحزب الله مشتّتة بين سوريا واليمن والعراق ولبنان.

2- حزب الله يعاني من حصار سياسي عربي غير مسبوق ومن حرب دولية وحقوقية ماليّة عليه.

3 – الحزب، لأوّل مرّة منذ نشأته، يعاني من فقدان الظهير الجيو- السياسي والعسكري واللوجستي الاستراتيجي الوحيد، والمقصود هنا سوريا الغارقة في حربها الداخلية.

4 – الحزب يقف في لحظة جديدة يشوبها التشويش من علاقاته بحليفه الأيديولوجي الاساسي، اي مع إيران المكبّلة بنتائج توقيعها الاتفاق النووي.

5 – قرار البيت الأبيض لم يعُد بكامله ملكَ أوباما الذي ينبذ الحروب والفاتِر تجاه نتنياهو، بل أصبح ملك حزبه «الديموقراطي» المعني في هذه اللحظة بإرضاء إسرائيل لكسب الصوت اليهودي في انتخابات رئاسة الجمهورية.

6 – لبنان في لحظته الداخلية يشبه لبنان عشية الحرب 1982: إحتقان اجتماعي ومعيشي وأمني غير مسبوق يزيده توتّراً دخول ديموغرافيا سوريّة نازحة كبيرة على البيئة الديموغرافية اللبنانية، ما عزّز الخَلل فيها لغير مصلحة الشيعة، يضاف الى ذلك تشتّت غير مسبوق لمؤسساته الدستورية والسيادية وظهور حمأة بورصة رهانات مجنونة بين أقطاب أحزابه المسيحية على شراء تأييد دولي لنَيل منصب رئاسة الجمهورية، الخ.

ويقرأ تقدير الموقف الاسرائيلي كفّة الفرص الآنفة بصفتها مجموعة فرص لتل ابيب للنَيل من حزب الله الغارق وسط كلّ هذه المتاهة التي تجعله اشبَه بجسد مدجّج بالسلاح، ولكنه يقف داخل تسونامي اجتماعي وسياسي وأمني داخلي وإقليمي يتفاعل بحدة في غير مصلحته.

في المقابل يبدو الحزب معنياً عبر كلام أمينه العام خصوصاً المتّصف بأنّ له وقع تطبيقات الحرب النفسية في إسرائيل، بتقديم قراءاته لميزان «الفرص والمخاطر» لجعل حكومة نتيناهو تتراجع عن رؤيتها المتفائلة.

يؤكّد قريبون من الحزب أنّ نصرالله مهتمّ بتوجيه حرب نفسية تعيد إسرائيل الى الاقتناع بأنّ «توازن الرعب» بينها وبين الحزب الذي كانت تقيم فيه منذ حرب العام 2006 لا يزال مستمراً، على رغم كلّ الظروف المستجدّة في المنطقة، والإيضاح لها بأنّ ايّ حرب جديدة لن تحقق لنتنياهو نصراً سريعاً وسيكون لها كلفة كارثية على اسرائيل.

وهذان الهدفان لمَّح نصرالله اليهما في خطابه في 17 شباط الماضي الذي وصَل فيه الى حدّ غير مسبوق من التهديد وممارسة الحرب النفسية ضد نتيناهو، ما يعكس انّه بات شبه مقتنع بأنّ اسرائيل تفكّر فعلاً بالخروج إلى الحرب ضده، وذلك عندما قال «إنّ لبنان بفعل قدرة المقاومة على ضرب حاويات الأمونيوم في حيفا باتَ يملك في ايّ حرب جديدة قوة ردع تساوي مفعولَ القنبلة النووية».

وقال أيضاً إنّ ايّ صاروخ يسقط على هذه الحاويات سيُميت الآلاف وسيكون له مفعول سقوط القنبلة النووية على حيفا!». ونصرالله المعني حاليّاً بإقناع اسرائيل بأنّها تقرأ معادلة الفرص والمخاطر بطريقة خاطئة، فالحزب لم تشتّت قوّته نتيجة اشتراكه في الحرب السوريّة، بل اكتسب في نواحٍ معيّنة خبرات قتالية نوعية جديدة، وهو اليوم اقوى بمرّات من الأمس في مواجهة اسرائيل، كون ترسانته الصاروخية والتسليحية اكثر عدداً ومدعّمة بأسلحة جديدة.

أضِف الى التأكيد أنّ أيّ معركة إسرائيلية جديدة ضد حزب الله ستتحول حرباً إقليمية. ويجدر في هذا المجال التوقّف عند تلميح بات يتردّد وسط مصادر مطلعة على تفكير طهران وحزب الله، ومفادُه أنّ ايران ستعوّض غياب الحليف السوري، بحيث إنّها، لن تبقى عملياتيّاً وليس فقط سياسياً مكتوفة تجاه ايّ حرب إسرائيلية جديدة على حزب الله.

وواضح انّ الحزب قرر زيادة منسوب الحرب النفسية ضد اسرائيل لثنيِها عن الخروج الى حرب، ويتوقف نجاح نصرالله في هذه الحرب النفسية على قدرته على ايصال الإيحاء الدامغ لتل ابيب بأنّه لا يشن حرباً نفسية فحسب، بل حرباً نفسية تستند الى معطيات قوة حقيقية يمتلكها الحزب؛ بمعنى انّ المفاجآت العسكرية التي يعِد بها ضمن حربه النفسية لها وظيفتان: منع الحرب من جهة، واستعمالها في حال نشبَت الحرب من جهة ثانية. هل تصدّق اسرائيل نصرالله هذه المرة أم تكابِر وتعتبر الفرصة الاقليمية السانحة الآن لكسرِ شوكته لا تعوّض إن هي تركتها تفوتها؟

ضمن الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من عرض 3 وقائع ستلعب دوراً في طريقة تفاعل اسرائيل مع اتّخاذ قرار الخروج الى حرب من عدم اتّخاذه:

الواقعة الاولى تتعلق بالنخبة المقررة للحرب اليوم في اسرائيل، وهي تتشكّل خصوصاً من الثلاثي نتنياهو ووزير الدفاع موشيه يعالون ورئيس الأركان غادي إيزنكوت.

وهذا الثلاثي منسجم سياسياً، لجهة انّ الأخيرين منقادان كلّياً الى هيبة نتنياهو عليهما. لذا يمكن توقّع انّ بيئة قرار الحرب في اسرائيل هي حالة منسجمة وليست متباينة ومختلّة التوازنات كما كانت على عهد العلاقة بين نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك إيهود باراك المستقل عنه بنظرته السياسية والعسكرية.

أضِف أنّ إيزنكوت يُعتبر رئيس أركان (الاوّل في تاريخ اسرائيل من عائلة يهودية مغربية) متخصصاً بالحرب مع حزب الله، فهو مصمّم استراتيجية اسرائيل الرسمية حول طريقة قتاله، والمعروفة اصطلاحاً بنظرية «استراتيجية الضاحية» التي نالت موافقةَ الحكومة الاسرائيلية، ولذا لم تعُد كما قالت صحيفة «يديعوت أحرنوت» مجرّد تهديد جنرال، بل سياسة إسرائيلية رسمية ومعتمدة. وتنصّ «استراتيجية الضاحية» على تدفيع كلّ لبنان ثمن ايّ صواريخ يطلقها حزب الله ضد اسرائيل وليس فقط تدفيع مطلقيها الثمن.

غادي في استراتيجيته المحظية بموافقة الحكومة الاسرائيلية عليها، يرفع شعار «استخدام القوّة غير المتكافئة مع لبنان بغضّ النظر عن الاحتجاج الدولي»، وأيضاً شعار «كلّ غزة حماس وكلّ لبنان حزب الله»، ويوصي بالتعامل مع القرى الـ 160 الشيعية في الجنوب بصفتها قواعد عسكرية وليست دساكر مدنية.

ـ الواقعة الثانية، يتّضح بحسب خلاصة ورشة النقاش التي عَقدها لهذه السنة معهد أبحاث الامن القومي الاسرائيلي، انّه يوجد في اسرائيل رأيان لتقويم انعكاسات خطر ما يحدث في المنطقة على اسرائيل؛ الاوّل تمثّله بيئة سياسية ينحاز الى رأيها خبراء في «الموساد»، وهي تقول إنّ «داعش» هي الخطر الاكبر على اسرائيل لأنّها باتت موجودة على حدودنا، كما انّ افكارها تنتشر داخل حدود الدولة العبرية نظراً إلى أنّ عدوى افكارها وصلت الى مواطنين عرب يقيمون بين ظهراني المجتمع الاسرائيلي.

والرأي الثاني تعبّر عنه وزارة الدفاع الاسرائيلية (يعالون)، ويفيد أنّ حزب الله اخطر من «داعش» على اسرائيل. ولو تركَ الخيار الافتراضي لتل ابيب فيجب ان تفضّل وجود «داعش» على حدودها في الجولان على وجود الحزب والحرس الثوري الايراني.

الواقعة الثالثة، وكاستخلاص موجز للنقطتين الآنفتين، يظهر واضحاً أنّ قرار الحرب في اسرائيل هو الآن في يد رئيس حكومة يسيطر على وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه، أي أنّ قرار الحرب موجود الآن في يد بيئة منسجمة سياسياً وبيروقراطياً، إضافةً الى أنه موجود في يد وزير دفاع ورئيس أركان هما من أشدّ المنظّرين لضرورة شن «حرب شرسة وتاريخية» على حزب الله.

فيعالون هو صاحب نظرية انّ على اسرائيل ان تكسب السلام ليس من خلال الانسحاب من المستوطنات لأنّ سبب عداء العرب لإسرائيل ينبع من الثقافة الجهادية وليس من الاعتراض على الاستيطان، وعليه يوصي بأنّه يجب «التغلّب على الجهاد الاسلامي لكي تربح اسرائيل حرب الحضارات».

لكن يعالون داخل انقسام النقاش الاسرائيلي الراهن حول من هو الأخطر على اسرائيل: «داعش» ام حزب الله؟ فإنه ينحاز الى تصنيف الحزب بأنّه هو الأخطر ويجب كسب «المعركة الحضارية» ضده. أمّا إيزنكوت فهو صاحب نظرية «استراتيجية الضاحية» التي تتصوّر أنّه يمكن تدمير حزب الله من خلال تدمير كلّ لبنان فوق رأسه، ويجب ان يحدث ذلك بغضّ النظر عن الاحتجاج العالمي.

الثلاثي الحربي الاسرائيلي الأشد حماساً للحرب على الحزب وإنهائه وجودياً، قد يكون الآن قرّر، بحسب معطيات متوافرة عند حزب الله وغيره، أنّ الوقت قد حان، لأنّ الفرصة الاقليمية سانحة ولأنّ شَلل إدارة اوباما في فترة الانتخابات الرئاسية تجعل إيزنكوت طليقَ اليدين لتنفيذ «استراتيجية الضاحية» من غير أن يثير ذلك احتجاجاً عالمياً فعّالاً ضد اسرائيل.