IMLebanon

لماذا يُزعجهم جعجع؟

تروِّج بعض قوى الممانعة لفكرة أنّ عدم مشاركة الدكتور سمير جعجع في الحكومة والحوار تشكّل انسحاباً من الحياة الوطنية، وتكراراً للخطأ الذي وقعَ فيه بعد العام 1990 وأدّى إلى اعتقاله، مهدّدةً بأنّه سيَلقى المصير نفسَه في حال استمراره على هذا المنوال.

ولم تكتفِ هذه القوى بالتعبير عن استيائها من رفض رئيس «القوات» المشاركة في الحكومة والحوار وكأنّه، بنظرها، يرفض تغطيتها من خلال الجلوس معها حول طاولة واحدة، بل ما زاد الطين بلّة، بالنسبة إليها دائماً، زيارته الى السعودية ومن ثمّ قطر، والحفاوة التي لقيَها في هاتين الزيارتين، خصوصاً في ظلّ توَجّس الممانعة من دور الرياض والدوحة في مواجهة تمدّد المشروع الإيراني، سيّما بعد الحرب اليمنية و«عاصفة الحزم».

ولا خلاف بأنّ نظرة هذا الفريق الممانع إلى الأمور لا تختلف عن نظرة الوصاية السورية لجهة أنّ تمايز أيّ مكوّن سياسي يثير لديه الريبة والنقزة، وما يحاول هذا الفريق الإيحاء به أنّ التسليم الأميركي بالدور السوري في لبنان بعد حرب الخليج والذي أدّى إلى اعتقال جعجع، سيتكرّر مع التسليم الأميركي بالدور الإيراني في لبنان بعد النووي، ولكن ما لا يأخذه هذا الفريق في الاعتبار يَكمن في الآتي:

أوّلاً، على رغم الدور الإقليمي الذي يلعبه «حزب الله»، إلّا أنّه يبقى أحدَ المكوّنات الحزبية-الطائفية في البلد، الأمر الذي يستحيل عليه أن يقوم مقام الوصاية السورية. فاحتلال دولة خارجية للبنان يختلف عن وضع فريق داخلي يدَه على البلد، وهذا الفارق بالذات الذي ترجم بين ما قبل الخروج السوري وبعده.

ثانياً، الظروف الخارجية والداخلية التي سَمحت للنظام السوري بوضع يده على البلد تختلف عن ظروف إيران اليوم. فحرب الخليج كسرَت ميزان القوى العسكري بين بغداد ودمشق لمصلحة الأخيرة، والسعودية التي كانت إحدى رعاة الطائف تحَوّل اهتمامها إلى الداخل الخليجي مع احتلال الكويت، وغضّت نظرَها حيال سلوك النظام السوري بعد وقوفه إلى جانب الدوَل الخليجية ضد الرئيس صدام حسين. وأمّا في العوامل الداخلية فلا يمكن إسقاط رغبة فريق من اللبنانيين ببقاء الجيش السوري إمّا لاعتبارات أيديولوجية، أو لأسباب غلبة داخلية.

ثالثاً، تحوُّل الصراع إلى صراع سعودي-إيراني وسنّي-شيعي يستحيل أن يقابَل بغضّ نظر خارجي سعودي وداخلي سنّي. فالتسليم السعودي بالوصاية على لبنان ممكن في حالة واحدة وهي انهيار المملكة الذي يبقى مجرّد حلم لدى الممانعين، وبالتالي ميزان القوى الإقليمي القائم يَمنع على طهران السيطرة المطلقة على بيروت.

رابعاً، المجتمع الدولي في غير وارد إعطاء إيران أوراقَ ترضية في لبنان أو غيره، وما حصَل في تسعينات القرن الماضي غير قابل للتكرار، وطهران التي رضَخت للمشيئة الدولية نوَوياً لم تأخذ أيّ مقابل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بل واشنطن دعَمت «عاصفة الحزم»، وشجّعت العرب على لعب دورهم وتحمّل مسؤولياتهم.

خامساً، الوضع في لبنان اليوم يختلف عن وضع ما بعد الحرب، إنْ لجهة أنّ الانقسام ليس مسيحياً-إسلامياً، أو لناحية وجود فريق وازن ومتنوّع طائفياً يقف ضد الهيمنة الإيرانية على لبنان، وأيّ محاولة من هذا النوع ستجرّ إلى حرب أهلية جديدة، ويكفي نموذج محاولة «حزب الله» وضع مفاتيح السراي الحكومي في الضاحية الجنوبية لتبيان استحالة أيّ توجّه مماثل.

سادساً، ظروف اعتقال الدكتور جعجع كانت خارجية بامتياز، وهي ليست فقط غير متوافرة اليوم إطلاقاً، بل إنّ علاقاته الخارجية بدءاً من السعودية تجعل الاقترابَ من «معراب» خطّاً أحمر سعودياً-عربياً-دولياً، فضلاً عن أنّ العوامل الداخلية أيضاً مختلفة تماماً في ظلّ تحالفاته الوطنية ودورِه المحوري على الساحة الداخلية.

فلكلّ هذه الاعتبارات وغيرها لن تحظى طهران بفرصة الوصاية على لبنان، وكلّ كلام آخر لا يخرج عن السياق التهويلي، وأمّا الأسباب الكامنة وراء انزعاجهم من رئيس «القوات» فتكمن في الآتي:

١) ثباتُه على الموقف الوطني، ورفضُه أيّ مساومة على عنوان الدولة واستعادتها لسيادتها وقرارها.

٢) عدم تأثّره بأيّ كلمة سرّ للمشاركة في الحكومة أو الحوار، فعلاقاته الخارجية لا تملي عليه اتخاذ هذا الموقف أو ذاك، بل أيّ موقف يتّخذه يكون وليد قناعته الذاتية. وإذا كان تأليف الحكومة جاء نتيجة تقاطع سعودي-إيراني، فهو لم يجد نفسَه معنياً بهذا التقاطع، مع حِرصه على الإشادة بالحكومة في حال أفلحَت، وانتقادها في حال فشلت. وما ينطبق على الحكومة ينسحب على الحوار.

٣) قدرته على الشبكِ وطنياً تظهِره وهو خارج الحكومة والحوار أقوى من القوى المشاركة في الحكومة والحوار. فعلاقاته لا تقتصر على مكوّنات 14 آذار، بل تمتد إلى الرئيس نبيه بري والعماد ميشال عون والنائب وليد جنبلاط، فضلاً عن حضوره الشعبي مسيحياً وإسلامياً.

٤) علاقاته الخارجية أظهرت أنّ محور الاعتدال العربي يميّزه عن كلّ الشخصيات السياسية اللبنانية، ويتعاطى معه كشريك في صناعة القرار السياسي، فضلاً عن ثبات علاقاته الدولية.

٥) قوّة «القوات اللبنانية» الشعبية والتنظيمية وتمدُّدها وتوسُّعها جعلت منها رقماً صعباً داخل المعادلة الوطنية. فعلى الساحة المسيحية هي الأقوى تنظيماً وحشداً، وتملك خطاباً واضحاً، وأولويتها من طبيعة وطنية لا سلطوية.

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها يشكّل الدكتور جعجع مصدر إزعاج للفريق الآخر، هذا الإزعاج الذي وصل إلى حد اعتقاله مرّةً ومحاولة اغتياله مرّة أخرى، وإذا كان الاعتقال لم يعُد وارداً للعوامل المذكورة أعلاه، فيبقى الاغتيال هدفهم من أجل ضرب ميزان القوى الداخلي، وإضعاف الجسم المسيحي السيادي، ومحاصرة الجسم السنّي السيادي…