IMLebanon

لماذا التفاهة؟

التفاهة هي فقدان المعنى والمغزى.

المرء يكتسب المعنى بما يحققه على صعيد الإنجاز. المعنى هو أن تكون قادراً على الفعل. الإنجاز ترجمة لحياتك، هو ما يمنح المعنى. فاقد المعنى هو من لم يستطع أن يضع نفسه موضع التحقق. معنى كلمة هو كلمة أخرى. نفتش في القاموس عن معنى كلمة لا نعرفه، بأن نجد مقابلاً لها في كلمة أخرى نعرفها. المعنى هو أن نسير من المجهول إلى المعلوم؛ أن نعرف ما لم نكن نعرفه، أن نخلق إنجازاً لم يكن ليتحقق من دون عملنا. نحقق أنفسنا عندما نفعل وننجز عملاً أو أعمالاً نحول بواسطتها الكامن أو المجهول إلى موجود بالفعل؛ انتقال من حال الكمون إلى حالة الظهور.

يحقق المرء المغزى بأن يكون على انسجام مع نفسه، وأن تكون أفعاله نابعة من ضميره، فلا يتخلى عن القيم والمعايير الأخلاقية عندما يعلو منصبه، ولا تصغر نفسه عندما يصير خارج تراتبية المجتمع والوظيفة. المغزى هو الذات كما ترى نفسها، لا الشرف الذي يعتمد صاحبه على رؤية الآخرين له. هو الضمير الفردي في تجلياته؛ اعتداد بالنفس لا كبَر فيه. احترام للذات يتقرر على أساس الاعتبار للآخرين لا على أساس اعتبار الآخرين للذات. أن تكون في كل أفعالك شبيه نفسك؛ أن تواجه كل الضغوطات الخارجية والإغراءات كالمال أو المنصب أو غيرهما، كما قال الشاعر:

وحالات الزمان عليك شتى

وحالك واحد في كل حال

كل منا ذو وضع في مجتمعه. صاحب المغزى والمعنى لا يصغر إذا انزلقت منزلته إلى الأدنى، ولا يكبر مع علو شأنه.

التفاهة هي أن نرى الشجرة من دون أن نرى الغابة التي أمامنا. تشغلنا الشجرة. ينشغل عقلنا بالأمور الصغيرة. يصعب علينا التفكير في قضايا تتجاوز المباشر والراهن والحدث اليومي، والقيل والقال. رؤية الغابة تتطلب تفكيراً أكثر تعقيداً وتركيباً. التفاهة تعشق البسيط والسطحي. لا تعرف أن الخبر حدث، وأنه جزء من رواية، وأن الرواية نتيجة فهم لا يتيحه تكرار الحدث أو الأخبار عن أحداث دون الربط بينها. يختفي الحدث عندما يحدث؛ تبقى المعرفة به. من غير الممكن معرفة الحدث دون الأسباب والنتائج؛ دون اكتناه السياق.

التفاهة هي السطحية؛ سطح تنزلق الأحداث عليه من دون أن تترك أثراً. لا نتائج لها. تبديد للأسباب. نقيض للنباهة حيث يكون الاعتبار للأحداث مع إحاطة وربط في ما بينها بما يشكل رواية أو نظرية أو فلسفة. الرواية سرد للأحداث بشكل منطقي. النظرية سرد للأحداث مع تعليل الأسباب وفهم قوانينها. الفلسفة تجمع الأحداث في رؤية شاملة، غير جانبية. صاحب المعنى والمغزى على استعداد دائم للمواجهة بالرأي، تحقيقاً لذاته، اقتحاماً للمجهول، إنجازاً لما يمكن تحقيقه. صاحب التفاهة لا يرى في النقاش فائدة. الحوار عنده معدوم. الحوار في قضايا الغابة غير مجد. لا جدوى عنده إلا في ما هو راهن ينزلق باستمرار بين أيدينا.

العقل المستريح هو الحامل للتفاهة. لا أسئلة عنده. الإجابات تتعلق بأحداث صغرى. ليس في هذا القول تلميح إلى ضرورة إهمال التفاصيل. لكن للتفاصيل سياقات. في اكتشاف السياقات، أو في محاولة ذلك يخرج العقل المستريح من اطمئنانه.

في مجتمعنا هل المال مكان جميع القيم الأخرى. ليس مهماً ما تنجزه أنت في مجالات الفن والسياسة والأدب والاقتصاد. لكل من هذه الحقول، وغيرها، معاييره. إلغاء المعايير لكل الحقول وحصرها في معيار واحد هو انعدام العدالة، هو التحول إلى التفاهة. يصير المال مقابلاً لكل شيء، مقابل كل ضمير وكل رأي وكل إنجاز، وكل معنى وكل مغزى. يصير المال أساس كل القيم. يقمع الجميع من مثقفين وغيرهم. المثقف الذي يختار غير ذلك يصير وحيداً منبوذاً مثل «البعير المعبد» الذي خاطب نفسه به طرفة بن العبد.

لا يختلف مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى؛ بل هي ظاهرة عالمية. حتى في البلدان الأكثر ديموقراطية، يفرض الأجندة أصحاب وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي والميديا. ترى خبراً صغيراً تافهاً يشغل الدنيا. في ذلك تعمية وإسدال الحجاب على الأحداث الكبرى والسياقات. تقاس قدرة المرشحين للرئاسة في الولايات المتحدة بقدرتهم على جمع المال والتبرعات التي تتدفق عليهم. وكل ذلك لقاء مقابل.

«التحايل على الأغبياء» عنوان كتاب أصدره اثنان من حملة جائزة نوبل. هو وصف للنظام الرأسمالي. يبدو أن الغباء يُصنع. يصنعه المال. تضطر إلى الكثير من القدرة على التحمل، وتحتاج إلى كثير من المعنى والمغزى كي تحتفظ بالصلابة الذهنية، كي لا تنساق مع الأجندة المرسومة لك ولغيرك.

يبدو أن التفاهة من ضرورات النظام الرأسمالي.