IMLebanon

لماذا الأول من آب؟

في 29 كانون الثاني من العام 1945 حلّ الغضب في بيروت. حمَل طلّاب لبنان المناشير والرايات واللافتات المؤيدة للجيش «رمز الاستقلال وسياجه» وانتشروا في الشّوارع واثقين أن «الدماء التي غلت في تشرين وانتجت الاستقلال ما تزال حارة في العروق وقادرة على تسجيل نصر جديد». أعلنوا الإضراب العامّ وقرّروا الاستنفار لحين تنفيذ مطلبهم الأوحد: تسليم الجيش اللّبناني إلى السلطات اللبنانية وتحريره من «قبضة» الفرنسيين.

في السّاعة الثّامنة صباحاً دقّت ساعة الصّفر. غصّ شارع «بلس» بالقرب من «الجامعة الأميركيّة» بمئات الطّلّاب المستشيطين غضباً. سارَ الجمع نحو القصر الجمهوريّ في محلّة القنطاري. وقفوا هناك بخطًى ثابتة، وبحناجر قويّة موحّدة أنشدوا النّشيد الوطني وهتفوا للجيش.

ولأنّ الحالة كانت دقيقة، والتّجاهل يُعدّ حماقة، أطلّ وزير الخارجيّة آنذاك هنري فرعون، وقال للجماهير الغاضبة «إنّ الحكومة ستطالب بالجيش ولن يهدأ لها بال حتّى يُعاد ضبّاطُنا وجنودنا إلينا». فرنسا كانت قد طبّقت مطلع العام 1945 قراراً سرّياً صادراً عنها في آب 1944 فرضت بموجبه عقوباتٍ تأديبيّة بحقّ ضبّاط لبنانيّين.

في اليوم التالي، عقد البرلمان اللّبناني جلسةً طارئة تمحورت حول ضرورة تسلّم الجيش. تقدّم الزّعيم كمال جنبلاط باقتراحٍ يطلب فيه من نوّاب المجلس «المطالبة بالجيش». وقال رئيس الحكومة عبد الحميد كرامي عبارته الشهيرة «إنّ كلّ دولة ليس لها جيش لا يُكتب لها عيش».

اختُتم النّقاش بطلب المجلس الّنيابي من الحكومة مطالبة الجانب الفرنسي بما بقي من المصالح وفي مقدّمها الجيش. ولأنّ المصالح اللّبنانيّة حتماً لم تكن من أولويّات السلطات الفرنسية، لم يتمّ التسليم بالحقوق اللّبنانيّة على وجه السّرعة. وامتدت «عمليّة المماطلة» لمدّة ستّة أشهر. وفي 12 تمّوز من العام نفسه، تمّ الاتّفاق في شتورة على تسليم الثّكنات والمنشآت في 20 تمّوز، والوحدات العسكريّة في 25 تمّوز، أمّا قيادة وإدارة هذه القوّات فتُسلّم في الأوّل من آب، الّذي أصبح في ما بعد عيداً وطنياً للجيش.

سبعون عاماً مرّت على تلك الأحداث. سبعون عاماً والجيش اللّبناني يمرّ بالمحنة تلوَ الأخرى والامتحان تلوَ الآخر. صورة الجيش اليوم تحوي الكثير من العناصر المتناقضة. يُفنّد الخبير في الشّؤون العسكريّة العميد الرّكن أمين حطيط تلك العناصر. يضعها بين خانتين: إيجابيّة وسلبيّة. يعتبر حطيط أنّ «العناصر الإيجابيّة تتمثّل أولاً بالمستوى الاحترافي الّذي بلغه الجيش في الميدان، خاصةً خلال مواجهة الجماعات الإرهابيّة، وثانياً بنسبة التّأييد الشّعبي العالية الّتي حظي بها والّتي باتت تعتبر الجيش ركناً أساسيًّا للاستقرار».

العناصر السّلبيّة تتمثل بالدرجة الأولى بمسألة التّسليح. يصف حطيط ما يتعرّض له الجيش في هذه المسألة بـ «المحاصرة الكبيرة». يعيد التّذكير بما هو معروف «فئةٌ من المساعدات الخارجيّة جاهزة ومرفوضة، وفئةٌ أخرى معروضة لكنّها خارج التّنفيذ». الحصارُ الدّاخليّ له دورٌ أيضاً فـ «الموازنة لا تخصّص للجيش شيئاً يُذكر». العنصر الثاني من العناصر السلبيّة هو التّجاذبات السياسيّة. يشرح حطيط كيف أنّ «الأخذ والرد الّذي يمارسه السياسيون في مسألة التعيينات الأمنيّة لأعضاء المجلس العسكري، ينعكس سلباً على معنويّات الجيش وعلى انتظام العمل داخل المؤسسة العسكرية».

في عيده السّبعين أسئلةٌ كثيرة واجتهاداتٌ أكثر تُطرح حول إمكانات الجيش، أدائه، مكامن القوّة والضّعف فيه. إلا أنّ شيئاً واحداً يبقى أكيداً، بحسب حطيط، وهو أنّ ما تتعرّض له المؤسّسة اليوم وما يحاك لها هو من «أسوأ ما تعرّضت له منذ نشأتها وحتّى يومنا هذا».