IMLebanon

الشوف يَبكي ملاكه… ريتا تتخرَّج في يوم عرسها السماوي!

 

كتبت ناتالي إقليموس في صحيفة “الجمهورية”:

لن تشربَ ريتا الشامي (26 سنة) وحيدةً نخبَ زفافِها في السماء، فمنذ يومين زُفَّ رفيقاها إلياس وارديني وهيكل مسلّم، ومنذ 4 أشهر سبَقتها والدتها كارمن نيقوليان وكأنّ “قلبها ألهَمها” بأنّ عمر وردتها لن يطول. أرادت أن تستقبل العام الجديد بفرح، فكانت لها السعادة الأبدية، طارت، حلّقت بعيداً وكأنّ الأرض ما عادت تتّسع لطيبةِ قلبها، لحبّها للحياة. أمس لم يكن موعد جنازتها، إنّما عرسها وموعد تخرّجِها.

منذ الصباح الباكر غصَّت مطرانية بيروت للروم الملكيين الكاثوليك بالمحبّين الذين احتشدوا للمشاركة في وداع ريتا، التي استشهدت في اعتداء إسطنبول. كلّ من شاركَ في “عرس” تلك الشابة سمعَ والدتها تُدندن من عليائها كلمات الشاعر طلال حيدر: “بيوم عرسِك قالتلي السما غنّي، لضلّ غنّي لتصير الدني جنّة… وقد ما بعِدتي لا تبعدي عنّي!”.

إذ كانت السماء تزداد نقاوةً وصفاءً كلّما رُقّص نعشُ ريتا عالياً، وكأنّ أمّها تُراقصها من فوق، هي التي طالما حلمت بأن تفرح بها وتزفّها بالأبيض. وللمفارقة أنّ ريتا قبل سفرها إلى تركيا، تحديداً قبل بضعة أيام من عيد الميلاد، كتبَت لروح والدتها: “كِيف معقول يكون عيد الميلاد بالسما؟…”.

أبى محبّو ريتا ورفاقها إلّا أن يودّعوها بعرس يليق بها، فوزّعوا صوَرها والورود البيضاء على الحاضرين قبل دخولهم الكنيسة، وزيّنوا دار المطرانية بالبالونات البيضاء. كلّما اقتربَ موعد بدء الجنازة ازدادت غصّة الأقارب. أمّا والدها الذي أتى محمولاً على كرسيّ متنقّل فقد بدا بشدّة التأثر، سيفُ الأحزان يحزّ في نفسه، أصفر الوجه، لم يجد ما يُعبّر عن حاله إلّا دموعَه.

وعند الساعة الأولى ترَأس الصلاة راعي أبرشية بيروت للروم الملكيين الكاثوليك المطران كيرلّس سليم بسترس، وألقى عظة تحت عنوان: “إحذروا واسهَروا لأنّكم لا تعلمون متى يحين الأوان”، أبرز ما جاء فيها: “نقف مع مريم العذراء ويوحنّا الحبيب على أقدام الصليب من أجل فداء العالم، وقلبُنا ممتلئ إيماناً بالقيامة… فقيدتُنا قد انتقلت من الموت الى الحياة، بحسب وعد المخلّص، لتحيا في مشاهدة الله وجهاً لوجه مع السيّد المسيح والقدّيسين”.

تسليمها الشهادة

ريتا التي درسَت في جامعة الـ AUST المرئي والمسموع، وحلمت بأن تكون صحافية، غادرت قبل أن يتسنّى لها نيلُ شهادتها. إلّا أنّ الجامعة أبت إلّا أن تُحقّق لها حلمها ولو حتى بعد رحيلها. فقبلَ انتهاء الجنّاز ألقى الدكتور جورج فرحة مدير قسم الإعلام في الجامعة كلمةً طمأنَ فيها ريتا قائلاً: “إنْ لم نمُت اليوم، فغداً، وإن لم نجرّب الموت، فقد تجرّعنا مرارتَه عن طريق موتِ عزيزٍ علينا… عزيزتي، نامي قريرةَ العين، لا همَّ لك بعد الآن، وكما كان الاتفاق، نعم، ستتخرّجين من الجامعة، نعم، سنحتفل جميعاً في يوم التخرّج كما لو كنتِ معنا، كرسيُّك سيكون في المكان المخصّص لك”. ثمّ قدّمت رئيسة الجامعة هيام صقر شهادةَ تخرّج ريتا إلى والدها الياس الشامي.

من دون طرحة…

فيما انتقلت عائلة الفقيدة لتقبّلِ التعازي في صالون المطرانية قبل أن يُنقل جثمان ريتا إلى مدافن العائلة في جون، تَحلّقَ حولها رفاقُها للمرة الأخيرة يبكونها، يقبّلونها، يعِدونها “لن ننساك أبداً”.

وبعدها رافَقوها إلى ساحة المطرانية حيث كانت زفّة عرس في وداعها الأخير، على وقع المفرقعات والأسهم النارية، الطبل والزمر، ونشر الأرز والورد، رقّصوا جميعُهم ريتا والدموعُ كنهر جارٍ عرضَ “خدودهم”.

في هذا الإطار، تحدّث المونسنيور أندريه فرح، خادم الرعية في المطرانية، لـ”الجمهورية” عن ريتا التي عرفها منذ طفولتها، ولا سيّما أنّ عائلتها من الملتزمين، فقال بأسى: “ريتا من الشابّات الموهوبات، معروفة بروح الخدمة، لم تفارق والدتَها لحظة في فترة مرضها، لا تفارقها البسمة أبداً”.

وأضاف: “المؤسف أنّ كلّ ما يُرتكَب من شر يُرتكب باسمِ الدين والحرّيات، ما ذنبُ شبابنا؟”.كيف يمكن تحمُّل الخسارة ولوعة الفراق؟ يجيب: “بطبيعتنا البشرية نتألم، نحزن، نفتقد، ولكنّ إيماننا المسيحي يُخوّلنا أن نزيح الجبل ونعزّي قلوبنا بقيامة المسيح”.

الشوف…

وقرابة الرابعة عصراً وصَل موكب الجنازة إلى ساحة جون مسقط رأس ريتا، حيث كان في استقباله حشدٌ من الأهالي، وسط أجواء من الحزن والأسى.

أنزِل النعش وحُمل على الأكفّ حتى كنيسة سيّدة الانتقال، وسط صورةٍ كبيرة مرفوعة للشهيدة. ترَأس الصلاة الرئيسُ العام للرهبانية المخلصية الأرشمندريت أنطوان ديب، الذي قال: “نحن لا نخاف الموت ولا نهاب التهديد ولا الشرّ ولا الظلمة، لأنّنا نعرف أنّ النهاية هي لله.

واليوم، ريتا أمام هذا الموت ستنام وستعيش في كنفِ العذراء مريم”. بعدها نُقلَ جثمان ريتا الى مدافن البلدة لتَرقد بسلام، فيما روحُها ستبقى تُحلّق في كلّ شابة وشابٍ يحبّ الحياة.