IMLebanon

حربٌ أمنية… من نوعٍ آخر

 

 

كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:

وثيقة واحدة و«شخطة» قلم من ضابط كانت كفيلة بزيادة السواد على ليل طرابلس الخميس الماضي، فالعائلات لزمت بيوتها، وبعض المحال قرّر الإقفال حتى اليوم التالي، فيما فضّلت الأمهات عدم إرسال أولادهنّ الى المدارس، في وقت شهد الشمال استنفاراً أمنياً واسعاً وحواجز ودوريات ومداهمات، بعد ورود معلومات عن «بيك أب» محمَّلاً بالمواد المتفجرة، في طريقه لتنفيذ عمل إرهابي في المنطقة، ليتبيّن أنّ المعلومات التي جاءت في الوثيقة لم تكن صائبة، علماً أنّ الجيش أكّد صحّة الوثيقة، فماذا حصل تلك الليلة؟تسريب الوثيقة ذاك الليل، أعاد النقاش حول الضرر الذي يسبّبه تسريب المعلومات عن الوضع الأمني، إضافة الى البلبلة والأجواء المشؤومة التي يخلقها، خصوصاً إذا استهدفت المعلومات مناطق سياحية أو ذات طابع اقتصادي، علماً أنّ الفترة الماضية شهدت كثرة تسريبات لوثائق عن سيارات مفخّخة أو انتحاريين، وغالباً ما تُسرّب هذه الوثائق من دون أن يُعرف مَن هي الجهة المسرّبة كونها متبادلة بين الأجهزة الأمنية حيث تصل الى أحدها وتعمّمها بدورها على الأجهزة الأخرى لتلاحق القضية.

وجهتا نظر تُطرحان تجاه هذا الموضوع الذي يمكن تسميته بالـ«إعلام الوقائي»، بحسب مصدر أمني لـ«الجمهورية»، فإحداهما تعتبره مفيداً لأنها ترى أنه أحد مقوّمات الـ«أمن الوقائي»، حيث تتوافر في بعض الأوقات معلومات عن حصول عملية معينة من دون أن تكون مكتملة، فاستباقاً لها وبهدف خلق نوع من الإرباك عند منفّذيها، ولإعلامهم بأنّ عمليّتهم كُشفت، يتغاضى المعنيون عن عملية التسريب، فالإرهابي الذي يصبح حديث البلد يضرب في هذه الحال الكثير من الحسابات، وتصبح تنقّلاته أصعب نظراً لكون العيون مفتّحة عليه ووصوله الى هدفه صعباً.

وفي السياق، لا تتجاهل الأجهزة الأمنية أيّ معلومة تتوافر لها، علماً أنه يتبيّن أحياناً عدم صحتها بعد اتخاذ الإجراءات بحقها، وهذا بسبب نقل العملاء لكلّ ما يدور في محيطهم حيث يندرج ضمن المتناقل بعض الشائعات، إلّا أنه لا تتسنّى دائماً للأجهزة الأمنية مقاطعتها للتأكد من صحّتها، بل تبدأ فوراً في اتخاذ الإجراءات اللازمة تفادياً للمخاطرة التي لا يجوز اتّخاذها، وهو ما حصل في طرابلس.

وترى وجهة النظر الأخرى أنّ هذا «التكتيك» مضرّ، إذ إنه يتسبّب في بلبلة خصوصاً إذا ارتبطت المعلومات بمكان سياحي أو اقتصادي، حيث إنّ الناس يتجهون الى مقاطعته، وبهذا يضرب الإقتصاد، علماً أنّ المعلومات التي تُسرَّب عن أماكن سياحية تحدث عن طريق الخطأ، ففي العديد من التحقيقات مع الموقوفين يدلون بالمخططات، فيسرّبها عنصر أحد الأجهزة الأمنية سواءٌ للإعلام أو لأحد المقرَّبين منه، ويتسبّب بالضرر لأصحاب الجهة المهدّدة من دون أن يقصد ذلك.

والدّليل على عدم السماح بأيّ تسريب إلّا في حالات إضطرارية، هو علم الأجهزة الأمنية بعملية استهداف «الكوستا» في الحمراء مسبقاً، من دون تسريبها لأيّ معلومة تفادياً لإلحاق الضرر بالمنطقة، ولكي لا يغيّر الإنتحاري وجهته، خصوصاً أنّ العملية كانت تحت سيطرتها، وكانت واثقة من قدرتها على إحباطها، ولذلك لم تتّخذ هذه المخاطرة، وكثّفت، كما تفعل عادةً في مثل هكذا حالات، إجراءاتها الأمنية القاسية في محيط المكان المستهدَف من دون إعلام الناس بها.

«تركيب ملفات»؟

تمتدّ المعركة في الحرب ضد الإرهاب من وقت التّخطيط الى ما قبل التنفيذ، فبين هاتين الفترتين تستطيع القوى الأمنية إحباط مخططاته، ومتى دخل مرحلة التنفيذ يكون الأوان قد فات، لكن يُحكى دائماً عن «تركيب ملفات» في العمليات الإرهابية، كعملية «الكوستا» التي اعتبرت أربع جهات أنها عملية مركّبة، فالأولى رأت أنها رُكّبت» لتأجيل الإنتخابات النيابية، فيما الثانية حلّلت أنّ مخابرات الجيش «ركّبتها» لتوصل عميدها كميل ضاهر لقيادة الجيش، في الوقت الذي اعتبرت الثالثة أنّ «تركيبها» حصل من أجل طرح إسم رئيس فرع المعلومات عماد عثمان لتبوُّء منصب مدير عام قوى الأمن الداخلي.

أما الجهة الرابعة التي أعدّت العملية، والتابعة للشيخ الموقوف أحمد الأسير، فقد غسلت يديها منها بعد فشلها، ونشرت فيديو بتقنيات عالية يشير الى أنّ هذه العملية قد فُبركت لإحباط قانون العفو عن جماعتها، والهدف منه إعادتهم الى السجون واستكمال الحملة عليهم.

فهل يمكن أن «تُركّب» عملية تكون أربع جهات مستفيدة منها، وكيف يمكن «تلبيس» شخص هكذا تهمة بهدف «تركيب» عملية ما، خصوصاً أنه بايع «داعش» علناً في فيديو أشار فيه الى أنّ هدفه قتل الروافض، أي الشيعة والنصارى، كما أنه اعترف بتردّده في تنفيذ عملية «الكوستا» بعدما سمع لهجة ثلاثة سوريين كانوا موجودين في الداخل، واعتقدهم مِن جماعته ولا يجوز عليه قتلهم.

رسالة دموية

نتيجة ما حصل أخيراً، وبعد توافر معلومات عن وجود أمير لـ«داعش» داخل مخيم عين الحلوة وإعطائه الأوامر لجماعة الأسير، التي بايعت «داعش»، بالتحرك من خلال اتصال مباشر مع الرقة، سلّمت الجهات الفلسطينية خطةً للجيش بناءً على طلبه، لها علاقة بالإجراءات الأمنية المحيطة بالمخيم، إضافة الى شلّ حركة مَن يتجه من داخل المخيم لتنفيذ عمليات في الخارج، وهو ما دفع بالإسلاميين الى محاولة اغتيال المستشار في السفارة الفلسطينية اسماعيل شروف أمس الأول كونه الجهة التي تعمل على هذا الملف، وشكلت محاولة الاغتيال رسالة لتخويف السلطة، بعدما التمست الجماعات جدّيتها، لكن هذه المرة غيّرت أسلوبها وساحة عملها، من خلال إطلاق النار وليس التفخيخ لتوصل من خلالها رسالة أكثر من تعمّدها في الإغتيال، وهو ما يُعتبر إجراءً وقائياً لهذه المجموعات.

لا معلومات حول عمليات الأجهزة؟

لا تستطيع الأجهزة الأمنية الكشف عن كلّ المعلومات حول العمليات التي تنفّذها، إذ لا يجوز تناقل أساليب عملها كون ذلك يشكل خطراً على شبكاتها في الدرجة الأولى، كما أنّ تعرّف الإرهابيين الى التقنيات التي تستخدمها الأجهزة يؤدّي الى تغييرهم لأساليب عملهم.

الى ذلك، تبقى التحقيقات سرّية إذ إنّ بعض المعلومات يحتاج للمتابعة، ومجرّد كشفها يسهل على الطرف الثاني معرفة حجم معلومات الأجهزة الأمنية ويصعب على الأخيرة خداعه، لذلك تضطر الأجهزة الأمنية الى حجب بعض المعلومات عن الإعلام وإن تسبّب ذلك في خلق حال من البلبلة، لأنّ الكشف عن طريقة تنفيذ العمليات يخدم الإرهابيين ويضرّ بالعسكر والمواطنين.

إنجازاتٌ نوعيّة

كلّ أجهزة الإستخبارات في العالم تعترف بمدى صعوبة إحباط عملية لانتحاريين، فهكذا عمليّات تحتاج الى دقّة وشجاعة يتّسم بها العسكر للإقتراب من شخص لن يتوانى عن تفجير نفسه بينهم إذا ضاقت به الخيارات، ومع ذلك كان لبنان الأوّل في إنجاز هكذا عملية نوعية، وهو ما دفع بالسفيرة الأميركية الى التوجّه لبعبدا لتهنئة رئيس الجمهورية على هذا الإنجاز، فيما لا يزال بعض الجهات مشكّك في إحباط عملية كانت ستكون حمام دم لن ينساه اللبنانيون.