IMLebanon

“شيزوفرينيا” 14 آذار… الظالمة والمظلومة!

 

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

«عندما وقعت 14 آذار، كَثُرَ السلّاخون». هذه العبارة قالها أمس أحد أركان هذا الفريق في تعليقه على الانتقادات الكثيرة التي يتعرض لها، هو وآخرون من رفاقه، بسبب سلوكهم السياسي الذي أدى إلى انتهاء 14 آذار. فهل إنّ أركان 14 آذار مظلومون فعلاً؟ وهل لديهم من الحجج ما يكفي لتبرير «الهزيمة»؟في الذكرى 12، لم يجد أركان 14 آذار مبرِّراً حتى لإضاءة شمعة على روحها: من الثورة المليونية في الشارع، إلى المهرجانات الشعبية الحاشدة، إلى اللقاءات الخطابية الضيقة في «البيال»، إلى الـ«لا شيء»!

ربما يكون أركان 14، هذه السنة، أكثر انسجاماً مع أنفسهم. فإذا كانوا سيلتقون لإلقاء الخطب النارية التي تؤكد التمسك بمبادئ «ثورة الأرز» وأهدافها، فلا داعي لذلك، لأنّ «الفضل سبق» في مناسبات عدة، ومنها 14 شباط الأخير، ولأنّ الناس يختبرون واقعياً المسافة الحقيقية بين الشعارات والتنفيذ.

كثيرون يسألون أركان 14 آذار: «مَن حشَرَكم لتقدّموا كل هذه التنازلات المتتالية، منذ 12 عاماً؟ وما الداعي لتتخلّوا عن «الانتصار التاريخي» الذي تحقق بخروج القوات السورية من لبنان عام 2005، بدعم الولايات المتحدة وسائر القوى الدولية؟ ولماذا استسلمتم لـ«حزب الله»، وتخلّيتم للمحور الإقليمي عن انتصاركم، فسقط البلد مجدداً تحت الوصاية؟»

غالباً، يصمت الآذاريون. لا يجيبون عن هذه الأسئلة الثقيلة. بل إنّ كلاً منهم يمتلك تبريره الخاص للتنازل في كل محطة منذ آذار 2005 وحتى اليوم.

1 – النائب وليد جنبلاط، «محرِّك» 14 آذار، يبرِّر بسهولة منطق رعايته التحالف الرباعي الذي عوّم «حزب الله» في 2005، وعلى أساسه تجري إدارة البلد حتى انتخاب الرئيس ميشال عون. فهو الذي زرع الفكرة القائلة إنّ استيعاب «الحزب» واجتذابه إلى «الخيار اللبناني» هو الطريقة الفضلى ليتخلّى عن سلاحه.

2 – الرئيس سعد الحريري انخرط في هذا التحالف اقتناعاً بالنظرية إياها، وبناءً على معطيات إقليمية. وتحت عنوانها قام بزيارة دمشق، المثيرة للجدل، وعقد لقاءاته الشهيرة مع الرئيس بشّار الأسد، ووافق على التحالفات الانتخابية مع 8 آذار وعلى الشراكة في الحكومة والمضمون الملتبس للبيانات الوزارية، وعلى تبنّي ترشيح النائب سليمان فرنجية ثم العماد عون.

3 – الدكتور سمير جعجع دفعه خيار الحريري الانتخابي إلى تبنّي ترشيح عون. وهو تالياً ذهب إلى «الواقعية السياسية» التي سبقه إليها آخرون.

4 – يمكن القول إنّ عون نفسه كان أول «الهاربين» من 14 آذار. «الواقعية المبكرة» لم تدفعه إلى التطبيع مع «حزب الله» كما يفعل الحريري وجعجع، بل ذهب إلى التحالف (سمّاه «التفاهم»).

من الحزبيين، وحده النائب سامي الجميل «صامد» في بيته المركزي في الصيفي، ويقول: «نحن 14 آذار. إنها لم تمت». ومثله يقول الرفاق في الأمانة العامة، الدكتور فارس سعيد والآخرون، مع «دوز» عالٍ من الاستياء.

يقول بعض حزبيي 14 آذار: «الحرب بالنظارات سهلة»… و»مَن يأكل العصي ليس كمَن يَعدّها». فهل يجوز إنكار الظروف التي في ظلها تتحرك 14 آذار منذ 2005؟ ويضيفون: «العالم كلّه تخلّى عنّا وتركَنا نواجه السلاح باللحم الحيّ.

الشهداء كانوا يتساقطون كأوراق الخريف، الواحد تلو الآخر، ولم تكن لنا القدرة على المقاومة إلّا بالكلمة فقط. وحتى القوى الدولية والإقليمية التي كانت تدعم 14 آذار، كانت لها حساباتها وتتصرف وفق مصالحها».

ويقول هؤلاء: «بعضهم أرادنا أن نغرق في فتنة مذهبية أو طائفية. ولكننا رفضنا الانجرار إليها، ولو كلفنا ذلك أن نخسر من رصيدنا وأن تنهزم 14 آذار. وبين الواقعية والمثالية التي يمكن أن تقودنا إلى حرب أهلية، اخترنا الواقعية. أليس من الظلم تحميلنا المسؤولية عن ذلك»؟

ويضيفون: «إنها مسألة وقت. لن يبقى أحد خارج المنطق الذي ينتقدوننا عليه. وبعض الذين يسيرون اليوم بمنطق التبرير هم أنفسهم انتقدوا الآخرين… إلى أن التحقوا بهم، فالتزموا الصمت! ونعتقد أنّ الآخرين سيفعلون ذلك أيضاً إذا أتيحت لهم الظروف»…

هذا المنطق التبريري يرفضه آخرون في 14 آذار، ويقولون: «إذا كانت هذه «الواقعية» مبرَّرة، تحت عنوان إنقاذ البلد، فلماذا إذاً انتفضنا على الذين تعاطوا «واقعياً» مع المرحلة السورية، علماً أنّ بعض «واقعيي» 14 آذار كان جزءاً من «واقعية» المرحلة السورية؟

وفي المحصلة، يضيع ناس 14 آذار بين المنطقين. ولذلك، تبدو 14 آذار مصابة بمرض انفصام الشخصية (شيزوفرينيا)، هي وقادتها وجمهورها.

ولو انهزمت 14 آذار لمصلحة الدولة لما كانت تلك هزيمة، لأنّ مشروعها الأساسي هو الدولة.

إنما انهزمت ومنحت انتصارها لفريق 8 آذار الذي تعتبره الـ«أنتي دولة». ولذلك، يمكن الحديث عن هزيمة حقيقية لـ14 آذار. وليس مناسباً تغطية هذه الهزيمة بتعزية النفس والقول: خسرت 14، لكن 8 لم تربح. فهل هناك منتصر آخر سوى «حزب الله»؟

هزيمة 14 آذار الحقيقية ليست في السياسة، بل في الفكرة. فمشروع «الانتفاضة» العابرة للطوائف والمذاهب، الحاملة حلم التغيير، هو مشروع أخلاقي في الدرجة الأولى، وقبل أن يكون سياسياً. وموت هذا المشروع هو الخسارة الحقيقية.

لقد مثّلت 14 آذار ما يمثّله اليوم المجتمع المدني من أحلام تغييرية. ولكن يبدو أنّ لبنان مقفلٌ تاريخياً على التغيير. ولذلك، حملت ذكرى 14 آذار هذه السنة أكبر شحنة من الحزن. وعلى صورة الجماهير المليونية طغت صُوَر الشهداء.

وغياب الاحتفال بالذكرى يمكن تشبيهه بالتوقف عن إقامة الجنّاز السنوي لشخصٍ توفّي قبل 12 عاماً، لأنّ ذوي الفقيد شبعوا حزناً عليه، ولأنهم باتوا يشعرون بأنّ وفاته أصبحت جزءاً من الماضي، ولأنّ مشاغلهم واهتماماتهم باتت في مكان آخر.