IMLebanon

تطبيقات «حرب بين حربين» تمنع الحرب بين «الحزب» وإسرائيل

كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:

في مبنى تحت الأرض يقع في عدة طبقات في مقر وزارة الأمن في تل ابيب، توجد قيادة قسم العمليات العسكرية التي يترأسها اللواء يتسحاق ترجمان، والى جانبه رئيس قسم العلميات في الاستخبارات العسكرية. في إسرائيل يطلقون على هذا المبنى تسمية «البئر»، ترميزاً لدوره الأهم في وضع خطط الحرب وإدارتها. ويؤدي هذان الرجلان، دور الوسيط بين المستوى السياسي ورئاسة هيئة الاركان، بمعنى أنهما مسؤولان عن تحويل تعليمات المستوى السياسي خططاً عملياتية حربية، وذلك على كل الجبهات، ويرفعانها الى رئاسة الأركان على شكل أوامر عسكرية للتنفيذ.
قبل ايام أجرت صحيفة «يديعوت احرنوت» مقابلة مع ترجمان. وانطلاقاً من موقع الاخير المطلّ على قرار الحرب في اسرائيل، فإنّ هذه المقابلة تعد فرصة ثمينة لمعرفة اين تقع حالياً فكرة الحرب على «حزب الله» داخل العقل الاسرائيلي، سواء على مستوى التفكير السياسي الاستراتيجي لحكومة بنيامين نتنياهو، او على مستوى التفكير الاستراتيجي العسكري للجيش الاسرائيلي.

والواقع انّ القراءة الاستنتاجية أو الاستخلاصية لمقابلة ترجمان، تُظهِر انّ اسرائيل تحدد اولويات التحديات الامنية الاستراتيجية التي تواجهها في هذه المرحلة، بنقطيتن أساسيتين: حركة «حماس» في غزة تشكل تحدياً ذا احتمالية تَفَجُّر أكبر، بينما «حزب الله» في لبنان يشكل تحدياً ذا احتمالية تفجُّر أقل ولكن تأثيراته على أمن اسرائيل أقوى.

ويستفاد من خلاصة كلام ترجمان كما قرأتها مصادر متابعة لملف احتمالات الحرب بين اسرائيل و«حزب الله»، انّ انفجارها لا يزال بعيداً. لأنّ جماعة «مبنى البئر» المسؤولين عن قرار الحرب، لا يزالون يراوحون عند مربع استراتيجي يرى انّ احتمالية اندلاع حرب في غزة يظل الاكثر توقعاً، نظراً لخصوصية غزة وتداخلها الجغرافي والامني مع مصالح اسرائيل الامنية العليا وأمن جبهتها الداخلية.

ويظل هذا الاحتمال قائماً رغم مُستَجد المصالحة بين «فتح» و«حماس» برعاية مصرية، ورغم تفكيك «حماس» إدارتها المدنية في غزة وتسليمها الى حكومة مصالحة وطنية تتبع لرام الله.

والواقع انّ النظرية التي طرحها ترجمان بصفتها استراتيجية اسرائيلية لا تزال معتمدة حتى إشعار آخر في مواجهة تعاظم قوة «حزب الله»، تعتمد على مقولة ليست جديدة بل صيغَت خلال فترة ما بعد 2006 وهي تقوم على مبدأ «حرب بين حربين»، وقوامها تنفيذ عمليات عسكرية مختلفة كإلقاء قنبلة من طائرة هنا وزرع صندوق تجسّس في مكان آخر وقصف قوافل سلاح نوعية للحزب واغتيال كادرات حساسة، وذلك على مدار الساعة يومياً، والهدف من ذلك تنفيذ حرب تتكوّن من مجموعة عمليات منفصلة، وغايتها الاستراتيجية مَنع امتلاك «حزب الله» قدرات نوعية تسليحية وغير تسليحية، وذلك تحت مبرّر انّ اسرائيل ستضطر في حال توافرها للحزب بنحو متراكم لأن تشنّ حرباً شاملة.

والواقع انّ هذه النظرية، هي التي توجّه المستوى السياسي والعسكري الاسرائيلي الى شَنّ عمليات عسكرية متواصلة يكون لها مفعول انها «حرب بين حربين» من دون ان يترتّب عليها نتائج شن حرب شاملة ضد الحزب، وواضح انّ من بين أهداف اسرائيل من ذلك، هو ليس فقط حرمان الحزب من قدرات نوعية، بل ايضاً تَجنّب اضطرارها الى دخول حرب أُخرى تشبه من حيث شموليتها حرب 2006.

ثمّة عنصر استراتيجي آخر على صلة باحتمالات الحرب بين «الحزب» واسرائيل قارَبه ترجمان في مقابلته وهو تأثيرات الضيف الروسي الذي بات لاعباً استراتيجياً في المنطقة منذ تدخّل موسكو عسكرياً في سوريا. من وجهة نظر «جماعة مبنى البئر» فإنّه كلاسيكيّاً يمكن النظر الى آلة الحرب الروسية الضخمة في سوريا والتي يحتشد «حزب الله» تحت مظلتها الجوية الضاربة، بصفتها ترسانة معادية لإسرائيل، لكنّ تل ابيب قررت الّا تنظر اليها على هذا النحو.

وبدلاً من ذلك يتمّ الحفاظ على مستوى تنسيق حسّاس مع الروس، بحيث انّ كل طائرة او رصاصة طائشة تنحرف عن مسارها ذي الصلة بميدان الحرب السورية البينية، فإنّ الروس يبادرون الى إخبار اسرائيل بها، وفي حال اكتشفتها اسرائيل قبل إبلاغها بها، فإنها توجّه اشارة الى قاعدة حميميم «اننا سنتحرك»، فتقوم الاخيرة بمعالجة الوضع.

وغير مرة وَفّرت المخابرات الاسرائيلية لموسكو معلومات ثمينة عن محاولات لاستهدافها من قبل جماعات تكفيرية، وغير مرة اختبرت موسكو صدقية المعلومات الاسرائيلية.

وهذا المسار من بناء العلاقة بين الطرفين، خَلق مع الوقت معادلة إسرائيلية في مجال التعامل مع الروس في سوريا، وفحواها يتمثل في انّ اسرائيل تنتهج بموجبها تكتيك الاستفسار من موسكو عن كل حالة ميدانية على حدة، تصدر عن «حزب الله» وتلفتها في سوريا، وتنتظر إجابة مطمئنة من حميميم وهي في العادة لا تتأخر، واذا تأخر الرد او لم يأت، فهي تتحرك.

ويوضح كلام ترجمان انّ أدوات منع الانزلاق الى حرب بين اسرائيل و«الحزب» تقوم من الجانب الاسرائيلي على تطبيقات نظرية استراتيجية «الحرب بين حربين» في لبنان، وعلى ملحقاتها في سوريا التي تنص على اعتماد تكتيكات الاستفسار الاسرائيلي من روسيا عن اي تحرّك للحزب في سوريا تتوجّس منه تل ابيب، ومن ثم انتظار التطمين الروسي اليه الذي لا يتأخر بالعادة، والذي اذا تأخّر فيكون بمثابة إشارة الى انّ في إمكان اسرائيل التحرك للتعاطي عسكرياً مع الهدف المتوجّسة منه.

لقد كشفت مقابلة ترجمان عن تنفيذ مئات عمليات القصف الجوي الاسرائيلية ضد الحزب في سوريا خلال العامين الاخيرين، وكل هذه العمليات جرت تحت مظلة معادلة الاستفسار القائمة بين موسكو وتل ابيب، والتي تتيح للأخيرة التحرك عسكرياً لضرب أهداف للحزب في حال لم ترد إجابات تطمين لهواجس اسرائيل من موسكو.

وداخل «حزب الله» يعترفون بهذه المعادلة بنحو غير مباشر، ويقولون انّ الاتفاق مع الجيش الروسي في سوريا، هو انّ الحزب لا يريد حماية انتشارهم العسكري هناك من الضربات الاسرائيلية ولكنهم يطلبون بإصرار عدم تقديم موسكو اي إحداثيات عن حركة الحزب العسكرية.

امّا اسرائيل، فهي لا تريد معلومات من روسيا، بل تريد رداً يطمئنها في حال كانت موسكو متأكدة من ان لا ضرر على أمنها، واذا كانت موسكو غير متأكدة او لا تريد الافصاح عن أي معلومة تجاه تحركات الحزب، فكل المطلوب منها هو إبداء الصمت حيال الاستفسار الاسرائيلي، وحينها ستتحرك الطائرات الاسرائيلية لمعالجة الأمر بنفسها.

وهكذا تحافظ موسكو على وعديها اللذين قطعتهما لـ«حزب الله» وإسرائيل… وبين معادلة الاستفسار الاسرائيلي والتطمين الروسي يقع في سوريا ميدان الهدنة بين الحزب واسرائيل، فيما بين معادلة الاستفسار الاسرائيلي وعدم الرد الروسي بأجوبة تطمئن اسرائيل، يقع في سوريا ميدان تطبيقات نظرية «الحرب بين حربين» – وفق نسختها السورية – الدائرة بين الحزب والجيش الاسرائيلي والتي هدفها في سوريا، كما في لبنان، منع انزلاق الصدام بين الطرفين الى حرب كبرى.