IMLebanon

بطريرك الموارنة في الرياض… فهل من مفاجآت أخرى؟

كتبت مرلين وهبة في صحيفة “الجمهورية”:

منذ فجر الإسلام لم تطأ قدمُ أيِّ شخصية دينيّة أو رَجل دين مسيحي أرضَ المملكة العربية السعودية بدعوةٍ رسمية أو من دونها، فكيف سيكون المشهد بعد أن يطأها بطريرك مارونيّ كاسراً الأعرافَ والتقاليد، مخترقاً أجواءَ بلاد الحرَمين الشريفين بطائرةٍ ملكية حطّت في مطار عسكري، لكنّ زائرَها يتسلّح بالبخور وغصن الزيتون، سلاماً وانفتاحاً، فيما يتساءل الجميع ما إذا كان هذا المشهد اللبناني السعودي الجديد، وتحديداً المسيحي، سيُحدث واقعاً مغايراً للعلاقة بين البلدين، خصوصاً بعد تنامي الخوف المسيحي من انفلاش الإسلام السياسي. فهل ستتبدّل الأدوار بعد زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي؟ وماذا عن المفاجآت التي تُحضَّر؟ وهل تكون أكثر وليس أقلّ من زيارة بطريرك الموارنة أرضَ مكة؟لا تكمن أهمّية الزيارة التاريخية التي يقوم بها بطريرك الموارنة إلى أرض الحرمين الشريفين في تزامنِها مع استقالة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري مثلما يروِّج البعض، إذ إنّ السعوديين يُولونها اهتماماً بالغاً نظراً لأهمّية الحدث بمعناه الجوهري. فالجميع ينتظر ويراقب كيف سيكون شكل رَجل الدين في الرياض!

وهو الأمر الذي كان يُعتبر من سابع المستحيلات، وهو ليس بالأمر المسموح شرعاً، واللافت حين يستوقف أحد المواطنين السعوديين أحدَ الكهنة المرافقين للوفد اللبناني ليسأله بتعجّب «هل أنت قسّيس؟»، ثمّ يومي له بضحكة مسالمة، ويضيف بإيجابية: «هذه هي المرّة الأولى التي أرى فيها قسّيساً في بلدِنا». لكن ورغم بساطة هذه الواقعة، فإنّ الحدثَ المهم الذي تنطوي عليه أهدافُ زيارة الراعي يَكمن في بساطة هذه الواقعة.

ولأنّ الدعوة الرسمية التي وجَّهتها المملكة العربية السعودية إلى مقام البطريرك ليست بالدعوة العادية أو دعوة يمكن المرور عليها كبقية الدعوات، مرور الكرام، يرى المتابعون أنّها تحمل في طيّاتها معانيَ كبيرةً ودلالات سياسية ودينية مثيرة للجدل، كما تحمل أيضاً تحدّياً من قبَل السلطات السياسية داخل المملكة إلى السلطات الدينية الرافضة منذ دهور هذا الواقعَ، في وقتٍ تريد السياسة الجديدة للحكم الجديد تأكيد انفتاحِها وعدلها وحكمة قراراتها ورؤيتها الحديثة لمستقبل علاقتها مع اللبنانيين، والمسيحيين تحديداً.

في الرياض يقول أحد المتابعين للحركة السعودية المتقدّمة إنّ دعوة البطريرك الماروني لزيارة بلاد الحرمين الشريفين هي دعوة «مزدوجةُ الأبعاد»، لأنّ الراعي ليس فقط بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة بل هو أحدُ كرادلة الكنيسة العالمية التي لها وزنُها في المشهد السياسي العالمي أيضاً، وبالتالي قرار المملكة يُشكّل تحوّلاً وازناً للسياسة السعودية الجديدة.

ويَلفت إلى أنّ قبول البطريرك الدعوة يُشكّل بدوره موقفاً «تاريخياً» للكنيسة المارونية، إذ إنّ الراعي يضعها على خط الحوار الإسلامي المسيحي العالمي، وتثبت أنّ الكنيسة المارونية هي الوحيدة في الشرق التي تربطها علاقة وثيقة بالكنيسة الأم أي روما، بعد أن يثبت البطريرك أنه يزور الرياض حاملاً صفتين، الأولى بطريرك الموارنة وأنطاكية وسائر المشرق، والصفة الثانية كاردينال الكنيسة الكاثوليكية في روما، وبالتالي هو البطريرك الوحيد الذي يساهم في انتخاب البابا. ومن خلال انفتاح الكنيسة المارونية التي تثبتُ مجدّداً أنّها الخبيرة في وضع خرائط وأسُس العيش المشترك.

في هذا السياق، يقول الدكتور فارس سعيد لـ»الجمهورية»، وهو السياسي الوحيد الذي رافقَ الوفد الإعلامي إلى السعودية برئاسة الأب عبدو ابو كسم، إنّ أكبر بُرهان على أهمّية الكنيسة المارونية ودورها في التاريخ أنّها الوحيدة التي أجرَت مراجعة ذاتية على أحداث الحرب الأهلية، وبالتالي كانت مصِرّةً على موضوع العيش المشترك، ومثال على ذلك حسب تعبيره تأسيسُ دولة لبنان الكبير عام 1920 عندما رَفضت الكنيسة رفضاً مطلقاً لبنان ملجأً لمسيحيّي لبنان والمنطقة فقط، وذهبَت في اتّجاه دولة لبنان الكبير القائمة على العيش المشترك على رغم الإغراءات في زمن الانتداب الفرنسي. فوقفت مع الاستقلال عام 43، وبعده وقفَت الكنيسة المارونية مع «الطائف» عام 89 وهي التي أطلقت بعدها «نداء الاستقلال» من خلال بيان مجلس المطارنة، وبالتالي أثبتت الكنيسة المارونية أنّها هي الأقرب إلى المسلمين».

أمّا في القراءة الحقيقية لهذه الزيارة، وتحديداً القراءة الجوهرية، فهي تشير، حسبما لمسنا، إلى رغبة سعودية لعودة الكنيسة المارونية إلى لعبِ دورٍ فائق الأهمّية من خلال دعوتها من الباب العريض على مسرح السياسة العالمية، وليس فقط السياسة الداخلية الضيّقة التي تختصر «8 و14 آذار» والمشاكل السياسية الآنيّة مِثل استقالة رئيس الحكومة. أي أنّ السعودية تريد لهذه الكنيسة أن تلعبَ دوراً عالميّاً وتشكّل جسرَ عبورٍ بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي.

أمّا الخطابات التقليدية التي تتغنّى بالعلاقات المسيحية الإسلامية السليمة، فهي نسفٌ لمعنى هذه الزيارة التي تأتي من أجل إحداثِ الوصلِ الحقيقي بين العالم العربي والمسلم والعالم الغربي والمسيحي، وليس الوصال الإعلامي الرنّان الذي يعلَن فقط من خلفِ المذياع العربي ووسائل إعلامه فقط. ويلاحِظ متابعو الزيارة، أنّها تأتي في وقتٍ يتّهم العالمُ الإسلامي الغرب ودوائر القرار السياسية المسيحية بأنّهم همَّشوا القضايا المحِقّة للعرب، من قضية فلسطين إلى قضية سوريا.

وبدوره ينظر العالم الغربي إلى الإسلام كأنّه مصدر القلق والعنف في العالم. فتأتي هذه الزيارة لتساهمَ في ردمِ هذه الهوّة، وأيّ كلامٍ آخَر لتحوير معنى الزيارة إلى الحدث السياسي المستجدّ في لبنان ليس الهدف الأساس، ولو أنّه سيُضاف حتماً كوزنةٍ مِن الوزنات المهمّة التي يحملها البطريرك معه.

وفي السياق تَجدر الإشارة إلى عوامل عدة ساهمت في إنجاز هذه الخطوة، العامل الأوّل هو الإدارة السياسية الجديدة في المملكة التي تحاول تقديمَ نفسِها على أنّها تقدّمية ومنفتحة، وهي اليوم تستقبل الراعي.

العامل الثاني، المصلحة المسيحية ألّا يقالَ إنّ المسيحيين في هذه المنطقة هم أعداء السنّة أو أعداء العالم الإسلامي، أو يذهبون في اتّجاه تحالف الأقلّيات، وأيضاً للانفتاح المسيحي على العالم الإسلامي.

إلى ذلك، هناك مصلحة هائلة للّبنانيين السعوديين، إذ هناك 300 ألف لبناني يعتاشون من الخليج و7 مليار دولار تدخل سنوياً إلى لبنان، وبالتالي تحسين العلاقات اللبنانية – السعودية بعد الخضّات التي نعيشها اليوم أمرٌ فائقُ الأهمّية، إذ يشكّل عددُ المسيحيين اللبنانيين المقيمين في دول الخليج نِصف عدد اللبنانيين المقيمين على أرضها.

أمّا السفارة اللبنانية التي دعت الوفدَ للّقاء مع الجالية اللبنانية أمس في السعودية تؤكّد أنّ هذه الزيارة ليس لها علاقة بعودة الحريري إلى لبنان أو باستقالته، إنّما إذا تمّ الأمر فهي تشكّل إضافةً نوعية وإيجابية للزيارة أيضاً.

ماذا يحضّر للبطريرك؟

كيفما توجّهنا في المملكة أو داخل الفندق، يتردّد الحديث نفسُه والعبارات ذاتها. وعلى رغم عدم وضوح الثمرة المفترضة لهذا الحدث التاريخي، يردّد الجميع أنّ ما تحضَّرَ للبطريرك الماروني كبير وكبير جداً، وسيؤكّد أنّ زيارته أكبرُ بكثير من الحدث السياسي الآتي في لبنان، خصوصاً أنّ الحدث الذي أنتجته هذه الزيارة لم يحصل منذ 1600 عام، وتشير المعلومات إلى أنّ هذه الزيارة حُضِّر لها منذ سنتين ولا علاقة لها بالحدث المستجدّ المتمثل في استقالة الحريري، إنّما مِن المؤكّد أنّ البطريرك سيتداول مع المعنيين، ولا سيّما مع وليّ العهد، في أزمة استقالة رئيس الحكومة.

إنّما تضيف المصادر أنّه مِن الخطأ تحويلُ أهدافِ الزيارة من حدثٍ تاريخي إلى حدث آنيّ وأزمةٍ آنيّة، خصوصاً أنّ الصحافة الأجنبية تنظر إلى هذه الزيارة بعين الأمل.

معنى الزيارة الحقيقي

بدا لجميعِ مَن رافقَ وواكبَ زيارةَ البطريرك، بما فيهم الدولة المضيفة، أنه أراد من خلالها إيصالَ رسالةٍ مفادُها أنّ المسيحيين الذين خافوا من صعود «داعش» منذ ثلاث سنوات وقصَدوا الحماية الغربية بسبب خشيتِهم من تنامي الإسلام السياسي المتشدّد في المنطقة، أدركوا اليوم أنّ ضمانة المسيحيين في المنطقة ليست من خلال البحث عن حماية غربية، لأنّ المسيحيين ليسوا جاليةً أجنبية وجِدت بالصدفة داخل الشرق، بل هم عربٌ، وضمانتُهم من خلال تمتين علاقتهم مع المسلمين، والضمانة الفعلية هي الشراكة مع المسلمين والجوار وتنظيمُ أسسِ المصلحة البشرية مع المسلمين، والمملكةُ تفتح للبطريرك وتُفسِح له المجالَ لأنّها أيضاً تجد مصلحةً لها في ذلك التحوّل، وللقول إنّ الإسلام منفتح وهو مؤمنٌ بهذه الشراكة، وكلُّ ما يقال غير ذلك هو الشواذ.

الخطاب نفسه ولو بعد مئة عام

يبقى القول إنّه وبعد مئة عام، ومنذ مئة عام من عيشٍ مشترك، قال المسيحيون كلمتَهم وما زالوا يطالبون بوجوب أن يكون لبنان مركزاً لحوار الحضارات والأديان كافة، وها هو البطريرك الماروني بشارة الراعي يُطبّقها، ويطبّق بالتالي رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الداعي إلى إثباتِ «قراءته للبنان»، بأنّه بلد رسالةٍ ويجب أن يبقى بلدَ الرسالة، وهنا تكمن أهمّية هذه الزيارة.

والسؤال الكبير هو: بماذا سيعود البطريرك من السعودية؟ وماذا سيحمل من الفاتيكان؟ وما هي المفاجآت المحتملة؟ هل ستكون إنشاءَ كنيسة في مملكة الحرَمين الشريفين، أم حتى أبعد من ذلك؟ أو غير ذلك كلّياً؟

بصرف النظر عن النتائج، أثبتَت الكنيسة المارونية مجدّداً أنّها خبيرةٌ في قضايا العيش المشترك وهندستِها، وأثبتت أنّها كنيسة شجاعة مبادِرة لا تخاف من المسلمين، وهي رائدة في المبادرات.

أمّا ترجمة هذه الزيارة فستكون من خلال أمرين:

1 – أن ينتزع البطريرك وبنجاح موافقةَ المملكة على أن يكون لبنان مركزاً لحوار الأديان والحضارات بعدما كان الأزهر يأخذ هذا الدور، وبعد مطالبةِ غالبية رؤساء الجمهورية اللبنانيين الذين تولّوا الحكمَ، وهي مهمّة ليست بسيطة أو سهلة كما يتراءى للبعض.

2 – إثبات أنّ المملكة لم ولا تنوي ترحيلَ المسيحيين المقيمين على أراضيها، ولو أرادت ذلك لَما دعَت البطريرك أساساً.