IMLebanon

“داعش” الى روسيا.. وإيران الى سوريا

كتبت راغدة درغام في صحيفة “الجمهورية”:

قلق روسيا من انتقام عناصر تنظيم «داعش» في عقر الدار الروسي ليس جديداً، إلّا أنّه اتّخذ صفة العلنيّة هذا الأسبوع عندما أعلن الكرملين أنّ الرئيس فلاديمير بوتين اتّصل هاتفياً بنظيره الأميركي الرئيس دونالد ترامب ليشكره على الإسهام الاستخباراتي في إحباط هجوم إرهابي كان يَستهدِف كاتدرائيّة كازانسكي في سان بيترسبورغ. الكشف عن القلق لافت لأنّ روسيا حبَّذت سابقاً إظهار القوة القاطعة والتّباهي بالقدرة على محاربة الإرهابيّين في سوريا كي لا تُحاربهم في روسيا.

اليوم هناك معادلات تتعلّق بما بعد مَزاعم روسيا بتحقيق الانتصار على «داعش» واستكمال المهمّة في سوريا. التوقّعات الاستخبارية تُحذّر من توجيه الانتقام «الدّاعشي» بالذات ضدّ روسيا التي قادت الصفوف الأمامية في الحرب ضد التنظيم في سوريا، ونصَّبت نفسها راية إلحاق الهزيمة به.

فلاديمير بوتين يَعي أنّ الإرهاب الآتي الى روسيا يحتاج الى شراكة أميركية – روسية استخباراتية في صَدّه وإحباطه على نَسق ما قدّمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA إلى نظيرتها في روسيا بما أدّى الى اعتقال جهاز الامن الروسي أشخاصاً من تنظيم «داعش» كانوا يُخطّطون للهجوم على ثاني كبرى المدن الروسية.

أتى هذا التعاون في خضَمّ المزايدات السياسية بين البلدين وسط أجواء توتّر نتَجَت عن تحدّي واشنطن مزاعم موسكو بأنّها أنجَزت مهمة الانتصار على «داعش»، واتّهامها لها بالتدخّل في الإنتخابات الرئاسية الأميركية.

أتى فيما كانت إدارة ترامب تُعدّ استراتيجيّتها للأمن القومي واصِفة روسيا بأنّها تُهدّد أسس النظام العالمي سَويّة مع الصين، مُعتبرة الاثنتين قوّتين «تحريفيّتين»، متّهمة موسكو بأنّها ضالعة في سياسات «تخريبيّة» في الدول الأخرى، والصين بأنّها «عدوانيّة» إقتصادياً.

أتى هذا التعاون الاستخباراتي لحماية روسيا من الإرهاب والانتقام من أدوارها في سوريا، فيما كان رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الشيوخ الروسي فيكتور بونداريف يتَّهم واشنطن بأنّ بقاءها في سوريا – كما أعلنت- هدفه «زَعزعة الوضع هناك».

وقال: «ليست هذه المرّة الأولى التي يدعم فيها الأميركيّون الارهابيّين والقوى المدمّرة»، وموسكو عازمة على أن «تساعد الرئيس السوري بشار الأسد» في «التصدّي» لواشنطن. فاللغات الاستخبارية والأمنيّة تتضارَب وتتقاطَع مع لغة المصالح الاستراتيجية بالشق السياسي والاقتصادي.

والفرز في الخطاب السياسي والاستراتيجي الروسي – الأميركي يُثمر اليوم بصورة مكثّفة على آفاق توطيد إيران ذلك الممرّ البرّي الأساسي لها الى البحر المتوسط مروراً بالعراق وسوريا وصولاً الى لبنان.

أنباء هذا الأسبوع أفادت أنّ إيران بدأت فعلياً استخدام خط طهران – دمشق وبات لها القدرة على ضمان مواصلة تواجدها عسكرياً في سوريا. الضامنان الميدانيّان لهذه القدرة في الوقت الحاضر هما «الحشد الشعبي» في العراق والقوات النظامية السورية الحليفة لطهران ومعها «الحرس الثوري الإيراني» الذي يُنظّم ويُشرف على إنشاء هذا الممرّ المُسمّى أحياناً بـ«القوس» أو بـ«الهلال».

التشدّد الذي يتوعَّد به دونالد ترامب مع إيران سيُمتَحَن عملياً في سوريا، وكذلك في اليمن. فإذا كانت استراتيجيّة ترامب قطعاً إقتصادية ترتكز الى العقوبات، فإنّ الطريق الى جديّتها يكمن في إقناع واشنطن العواصم الأوروبيّة المهمّة، مثل برلين وباريس، بأن تكون شريكة فعليّة في العقوبات الجديدة على إيران لمنعها من زعزعة استقرار حلفاء واشنطن.

وإذا كان التشدّد الموعود استراتيجياً وصارماً، فإنّه سيتطلّب من واشنطن «التصدّي» ميدانياً للتمدّد الإيراني بما في ذلك على خطّ إمدادات إيران العسكرية الى المتوسّط. وهذا يتطلّب من واشنطن سياسة حازمة مع العراق كي يلجم «الحشد الشعبي» ويُصرّ على دَمجه في الجيش العراقي حقاً وليس من خلال بدعٍ تُعطيه «معنويّات» الاستقلال وتلبية مطالب «الحرس الثوري» الإيراني- ذراع الامتداد والتوسّع الإيراني في الجغرافيا العربية.

ويتطلّب أيضاً الحزم في سوريا في شأن خطّ الإمدادات الإيراني بما في ذلك العمل العسكري على أيادي «التحالف الدولي» الذي تقوده القوات الأميركية.

ما لن تفعله إدارة ترامب هو ضرب إيران عسكرياً في عقر الدار الإيراني. هذا ما أوضحه وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي ترَك الانطباع بأنّ الجولة الأولى من «التصدّي» الأميركي لإيران ديبلوماسية، من دون أن يُغلق الباب أمام عمليّات عسكرية لاحقة لصدّ إيران في الساحتين السورية عبر «التحالف الدولي»، واليمنيّة عبر دعم «التحالف العربي».

بوادر ما تعمل عليه إدارة ترامب ديبلوماسياً بدأت تظهر في الغضب الإيراني من فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون، الذي يتحدّث بلغة فَرض عقوبات جديدة بسبب البرنامج الصاروخي لإيران.

كبير مستشاري مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي أكبر ولايتي حذّر فرنسا، ووصَفَ الرئيس الفرنسي بأنّه «يتصرّف الآن وكأنّه كلب ترامب المدلّل».

قبل أيام، كان لافتاً ما قاله ماكرون بأنّ العمليات العسكرية ضد «داعش» ستتواصل في سوريا حتى «منتصف شباط الى نهايته». هذا التصريح يُواكب الموقف الاميركي الرسمي بأنّه من المُبكر استعجال روسيا إلى إعلان الانتصار وأنّ القوات الأميركية باقية في سوريا. وهو في الوقت ذاته يُناقض تأكيد روسيا بأنّ سوريا «تحرَّرت تماماً» من «داعش».

بين طَيّات مواقف ماكرون ممّا أثار ولايتي يكمن في مراقبة «التحالف الدولي» العسكرية لِما تقوم به طهران عبر خط الإمدادات الإيرانية. فهذا وقت الحصاد لإيران في سوريا.

طهران عازمة على صدّ كلّ مَن سيَسعى لمنعها من ترسيخ موقع قدمها على المتوسّط عبر سوريا. إنّها تحتاج نظام بشار الاسد لتتمكّن من توطيد موقعها، ولذلك لن تتخلّى عنه مهما كان. وهي تخشى ما قد يخلّفه تعزيز التقارب والتنسيق الأميركي – الروسي من نتائج سلبية على المصالح الإيرانية.

فعلى رغم تنافس المصالح الأميركية – الروسية في سوريا، هناك خطّ خفيّ في تطابق هذه المصالح، وهو ألّا تُعطى إيران فرصة امتلاك سوريا. موسكو قد لا تريد يداً إيرانية بيد بشار الأسد تُهدّد بتقويض استفراد روسيا في رَسم خريطة مستقبل سوريا، فهذا ليس في مصلحتها الاستراتيجيّة البعيدة المدى. لذلك، لربما تنظر موسكو في فوائد مواقف أميركية تُساعدها في احتواء «الانتصار» الإيراني في سوريا، وكذلك في تحريرها من الاعتماد على بشار الأسد.

كلام ماكرون عن ضرورة التحدّث مع بشار الأسد أتى في سياق قوله: «بشار هو عدوّ الشعب السوري، أمّا عدوّي فهو داعش… بشار الأسد سيكون هنا لأنه محميّ من أولئك الذين ربحوا الحرب على الأرض سواء إيران أو روسيا، من هنا لا يمكن القول إنّنا لا نريد التحدّث معه أو مع ممثّليه».

الكلام عن الحماية الإيرانية والروسية للأسد أرفَقه ماكرون بنوعٍ من الطعنة للحاميَين، إذ أضاف أنّ التحدّث مع بشار الأسد «لن يُعفي الرئيس السوري المتّهم بارتكاب تجاوزات عدة من أن يُحاسَب على جرائمه أمام شعبه، أمام القضاء الدولي».

هذه التناقضات في المواقف الفرنسية والروسية والأميركية إنّما هي دليل على استبدال ما سُمّيَ بـ«عقدة الأسد» بـ«العقدة الإيرانية». حينذاك، كان بقاء الأسد أو رحيله هو العقدة. اليوم لا حديث عن رحيل الأسد في هذه المرحلة.

أحاديث البعض تنصَبّ على كيفية حلّ العقدة الإيرانية بعدما تمّ «الانتصار» على «داعش» في العراق وسوريا. إنّما الهمس باقٍ في الأروقة الاستخبارية العالميّة حول اقتناعٍ خَفيّ بأنّ تنظيم «داعش» لم يتبَخّر فجأة، وأنّ هناك دلائل على تَفريخه بصورة أقوى في الساحة والجيرة الروسية.