IMLebanon

نقطة في بحر!

كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:

كل ما يجري عندنا، وما يرافقه من صخب وضجيج وقوقعة سياسية حول عناوين كبيرة وصغيرة وحتى على جنس الملائكة والشياطين، يبقى نقطةً في بحر التطوّرات المتسارِعة من حول لبنان وعلى امتداد المنطقة.

يؤكّد ذلك مضمونُ تقريرٍ سياسي أعدّته جهة وسطية، وينطلق في بدايته بمقدمة انتقادية لواقع الحال السياسي في لبنان وما بلغه ما سماه التقرير بـ«الاشتباك المفتعل» حول مرسوم الأقدميات وما تفرّع عنه من اشتباكات فرعية حول عناوين أخرى وصل التباين فيها الى حدّ وضع مصير الانتخابات النيابية المقرَّرة في أيار المقبل في دائرة التهديد.

يلقي التقرير نظرةً تشاؤميّةً على مسار الأمور في المنطقة، وتطوّراتها التي قد لا يمتلك لبنان، بالنظر الى هشاشة وضعه الداخلي على كل المستويات، قدرة اللحاق بها أو حتى التعايش معها أو حتى تجنّب مفاعيلها ومنع شراراتها وتداعياتها من أن تتمدّد اليه.

ويعدّد التقرير مجموعة «النقاط المشتعلة» كما يلي:

أولاً، الملف النووي الإيراني، الذي وضعته إدارة دونالد ترامب على مشرحة الابتزاز لإيران، حيث يتّجه هذا الملف الى مزيد من التعقيد، وخريطة التعقيد الإضافي سيرسمها الكونغرس الأميركي الى جانب إدارة ترامب في وقت ليس ببعيد. رغم أنّ هذا الملف ما زال محميّاً من الدول المعنيّة به: روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا وألمانيا.

ثانياً، الوضع في فلسطين، إذ إنّ كل الوقائع تؤشر الى تطوّرات شديدة الخطورة، تكمل إعلان الرئيس الأميركي نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، وتندرج في سياق الخطة المرسومة أميركياً وإسرائيلياً بمباركة بعض العرب، لإنهاء القضية الفلسطينية ومحو هويّة القدس العربية.

ثالثاً، الوضع في اليمن، حيث يكثر حديث بعض الدوائر الديبلوماسية عن تحضيرات لدول التحالف العربي الذي تقوده السعودية، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة ودول أخرى عربية وغربية لـ«تصعيدٍ نوعي» بهدف قلب الميزان العسكري وتغيير الخريطة في الميدان العسكري.

رابعاً، الوضع في إيران، الذي خضع لامتحانٍ صعب قبل فترة قصيرة بالاحتجاجات التي شهدتها المدنُ الإيرانية. فعلى رغم إعلان السلطات الإيرانية بأنها تمكّنت من احتواء الاحتجاجات، إلّا أنّ الوضع في هذا البلد أشبه ما يكون لجمر تحت الرماد، ولاسيما أنّ الاحتجاجات التي حصلت أفرزت تهديدَين جدّيَين للنظام الإيراني، الأول داخلي وتجلّى في حجم الاحتجاجات وتمدّد رقعتها، وكذلك في الشعارات التي تجاوزت البعدَ الاقتصادي والمعيشي المهترئ الى علاقة الشعب الإيراني مع نظام الثورة ورغبة الشريحة الواسعة من الإيرانيين، وخصوصاً مَن يُعتبرون جيل ما بعد الثورة، بالتحرّر من القيود المفروضة عليها واللحاق بالعالم المتقدّم.

وأما التهديد الثاني فخارجي، حيث تأكّد أنّ الجانب المهم من الاحتجاجات تُحرّكه أصابع خارجية. معنى ذلك أنّ الوضعَ الإيراني هشّ وقابلٌ للانفجار في أيّ لحظة، بفعل الصواعق الداخلية والخارجية المزروعة فيه.

وهو ما جعل النظام يستشعر الخطر ويرسم خطة مواجهة بدأها بتجييش حملة شديدة ضدّ المعترضين وما يسمّيها الخلايا الاستخباريّة والإرهابية المرتبطة بالخارج.

خامساً، الوضع السوري المرشّح لإعادة خلط الأوراق من جديد وللانفجار أكثر من ذي قبل، على حلبة المواجهة الأميركية الروسية في هذا الميدان.

الروس استفزّوا الأميركيين بإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتصارَ في سوريا.

جاء الرد في ٣١ كانون الأول الماضي من استهداف مجموعة مسلّحة بقذائف هاون قاعدة حميميم في اللاذقية، وهي واحدة من نقطتين، احتفظت فيهما روسيا بتواجد طويل الأمد، بناءً على اتّفاق مع الحكومة السورية. وكانت النتيجة مقتل أربعة جنود، في هجوم مريب، قالت جهات عسكرية واستخبارية روسية إنه لم يكن ليتم دون حصول المجموعة المنفّذة على إحداثيات من الجانب الأميركي.

ويلفت التقرير الى أنّهم وجدوا في هذا الاعتداء تطوّراً خطيراً يرتكز على نوايا عدوانية ولذلك سارعت القيادة العسكرية الروسية إلى اتّخاذ إجراءات وقائية حول قاعدتي حميميم وطرطوس وتعزيزهما بمنظومات دفاعية، بما في ذلك تفعيل وضعيّة الاستعداد لمنظومة «أس 400».

بالتوازي مع إصدار الأوامر بتكثيف الضربات الجوّية ضد المجموعات المسلّحة في إدلب التي تبيّن للاستخبارات الروسية أنها انطلقت منها، بالتزامن مع هجوم كبير شنّه الجيش السوري وحلفاؤه، لاستعادة السيطرة على مناطق عدّة، في ريفَي إدلب وحماة، حقّق نتائجه الأوّلية، في السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري.

وما زاد الأمر خطورةً، كما يشير التقرير، تجلّى في مهاجمة أسراب من الطائرات من دون طيّار، والمفخّخة بالمتفجّرات، قاعدتي حميميم وطرطوس. وهو الأمر الذي عزّز التكهّنات بشأن الجهة التي تقف حول هجوم على هذا القدر من الخطورة، وما يطرح تساؤلات عدة حول الأهداف العسكرية والسياسية من هذا التصعيد غير المسبوق.

هذا الوضع، خلق اجواء بالغة الخطورة، خصوصاً أنّ موسكو لم تقتنع بغسل الولايات المتحدة يدها من هذا الهجوم، بل إنها أي موسكو لا تحتاج إلى الكثير من الأدلّة للكشف عن وجود بصمات أميركية خلف الهجوم الجوّي على قاعدتَي طرطوس واللاذقية، ومن هنا بدأت تخرج من روسيا رسائل بشأن خطورة «إخراج المارد الروسي من القمقم».

وخروج هذا المارد للحفاظ على المكتسبات والمصالح الروسية التي تحقّقت في الميدان السوري، معناه أن لا أحد يستطيع تقديرَ حجم النار التي قد يُشعلها وكذلك حجم المساحة الجغرافية التي قد تشملها هذه النار.

هذا التطوّر، وكما يستنتج التقرير، آيل للتفاقم، وأما أولى الضحايا، فهي مسار التسويات، إذ من شأن هذا التطوّر المتفاقم، أن يؤدّي إلى تزايد احتمال تقويض ما تمّ التفاهمُ عليه بين الرئيسَين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وكذلك تقويض التسويات التي تمّ التوافقُ عليها بين بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، خلال القمّة التي جمعتهما، الى جانب الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أسابيع، وبالتالي تفجير المفاوضات المرتقبة في سوتشي في نهاية كانون الثاني الحالي، أوحتى مسار أستانا برمّته، ما من شأنه أن يعيدَ خلطَ الأوراق في الصراع السوري ويشرّع بابَ الاحتمالات على أوسع مداه

ويفترض التقرير أنّ الغاية من محاولة قلب الوقائع في المشهد السوري، هي خلط الأوراق لصالح واشنطن، إلّا أنّ هذا الأمر ليس بالسهولة التي يبدو أنّ بعض مخططي السياسات في الولايات المتحدة مؤمنون بها، انطلاقاً من كاتالوغات الحرب الباردة المعروفة، ذلك أنّ الرد الروسي على الهجومَين على القاعدتين، سواءٌ على المستوى الدفاعي وتفعيل المنظومات التي ساهمت في إحباط الهجوم الجوّي عليهما، أو على المستوى الهجومي، عبر الضربات على إدلب والعملية الكبرى التي بدأها الجيش السوري فيها، فكل ذلك يشكّل رسالةً مباشرة من روسيا مفادها أنّ روسيا اليوم ليست الاتّحاد السوفياتي في الثمانينيّات، ما يعني أنّ محاولة استنزاف الجيش الروسي مجرّد حلم عند المخطّطين لهذا الأمر، وأنّ «تعويذة أفغانستان» لن تنفع مع صواريخ «اس 400»… وغيرها.

وترد في خلاصة التقرير إشارة حول تركيا، فالروس حذرون من الجانب التركي، ورغم تذبذب موقفها، فمن المستبعد أن تنجرف بدورها إلى الفخّ الجديد الذي ينصبه الأميركيون، فالرئيس التركي غيرُ مستعدّ اليوم للتضحية بتسوية سياسية – عسكرية تحمي أمنه القومي أمام الأكراد في عفرين، وإن كان يعتبر إدلب من مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري، علاوة على أنّ الوقت لم يفت كثيراً لكي ينسى تداعيات التصعيد مع الروس، قبل عامين، حين غامَر بإسقاط مقاتلة «السوخوي» في أجواء الحدود السورية – التركية.

هذه الصورة السوداوية يرسمها التقرير، وأخطر ملاحظة ترد في خاتمته: «هذا التطوّر الكبير، ينبغي أن يُقارَب بحجمه، وليس على طريقة النعامة بدفن الرأس في الرمال، إذ إنه يزرع شظايا خطيرة لا تصيب الداخل السوري فقط، بل هي شظايا من النوع العابر للحدود في اتّجاهات إقليمية ودولية مختلفة. ولبنان يقع جغرافياً في النقطة الأقرب الى آتون النار.