IMLebanon

البيت الأبيض في عهد ترامب

كتب مسعود المعلوف في صحيفة “الجمهورية”:

بديهي أنّ المواقف التي تتّخذها الدول تكون عادة مبنيّة على مصالحها الخاصة وليس على المبادئ والأخلاقيات العامة، والولايات المتحدة، مثلها مثل غيرها من الدول، لا تَشذّ عن هذه القاعدة.

فالرئيس السابق باراك اوباما مثلاً، المعروف بالمستوى الأخلاقي العالي الذي كان يتمتَّع به على الصعيد الشخصي، كان يدعم إسرائيل بقوّة لدرجة أنّ المساعدة المالية الأميركية لإسرائيل بلغت رقماً قياسياً في عهده، وذلك على رغم استمرار هذه الدولة في احتلال الأراضي الفلسطينية، وعلى رغم سياستها الإستيطانية المُعيقة للسلام، وعلى رغم أيضاً عدم الانسجام الشخصي الكبير الذي كان قائماً بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

فمن الناحية المبدئية والمنطقية، ليس أخلاقياً أن تدعم الولايات المتحدة اسرائيل التي تقتل وتسجن أطفالاً ونساء وشيوخاً، إلّا أنّ الموقف الأميركي يعتبر أنّ المصلحة الوطنية لها الأولوية.

وإذا كانت الأخلاقيات لا تأتي في طليعة أولويات المواقف السياسية للدول، فهذا لا يعني إطلاقاً أنّ رئيس الدولة يمكنه أن يتصرَّف، على الصعيد الشخصي، بمعزل عن القيَم والأخلاقيات العامة. القيَم والأخلاقيات تلعب دوراً كبيراً في اختيار المرشح الرئاسي أولاً في الإنتخابات التمهيدية، حيث يختار كلّ من الحزبين الجمهوري والديموقراطي مرشّحه، وتالياً في الإنتخابات العامة حيث يتنافس المرشح المعيّن عن كل من الحزبين.

نذكر هنا على سبيل المثال المرشح الديموقراطي في الإنتخابات التمهيدية للعام 1988 السناتور غاري هارت الذي كان أحد أوفر المرشحين حظاً للحصول على تعيين حزبه له، لكنّه اضطر للإنسحاب من المعركة الإنتخابية بسبب فضيحة أخلاقية سببها اكتشاف علاقة جنسية له خارج الزواج مع سيّدة تدعى دونا رايس، وقد أدى ذلك الى خروجه ليس فقط من الإنتخابات الرئاسية بل أيضاً من الحياة السياسية الأميركية بالكامل، وذلك لما للسلوك العائلي والشخصي من أهميّة للدخول الى حلبة التعاطي بالشأن العام، خصوصاً على المستوى الرئاسي.

كان هذا في العام 1988، ولكن كيف أصبحت الأمور منذ انتخابات 2016 التي كان المرشح الأبرز فيها الرئيس الحالي دونالد ترامب، وكيف أصبحت صورة البيت الأبيض في عهده؟ هل تغيّرت نظرة المواطن الأميركي الى شخصية الرئيس وهل لم تعد الأخلاق والقيم من المعايير الأساسية للوصول الى سدة الرئاسة؟

عندما أعلن ترامب رغبته في الترشح للرئاسة، لم يؤخذ ترشّحه على محمل الجد في بداية الأمر، ليس فقط لقلّة خبرته في الحقل السياسي وعدم تعاطيه الشأن العام واقتصار تجاربه على نشاطه في مجال الأعمال، بل أيضاً وخصوصاً لما ظهر عنه، خلال الحملة التمهيدية أولاً ثم في الحملة ضد هيلاري كلينتون، من تصرّفات في حياته الخاصة بعيدة كل البعد عن القيم التي يأمل الناخبون عادة وجودها لدى من سيتولى الرئاسة.

من أبسط الأمور الأخلاقية الأساسية التي يفترض أن يتمتع بها الإنسان، خصوصاً المرشح لتولّي أهم منصب في العالم، الإستقامة في السلوك الإجتماعي، الصدق في التعاطي مع الآخرين والابتعاد عن المواقف العنصرية التي من شأنها تأجيج الخلافات الإجتماعية في بلد مثل الولايات المتحدة، حيث الإنقسام واضح جداً على صعيد التكوين العنصري للمجتمع. هل يتمتّع ترامب بهذه الصفات الخلقية التي كانت في الماضي أساسية لدخول البيت الأبيض؟

على صعيد السلوك العام أولاً، وبصرف النظر عن أنّ ترامب متزوّج للمرة الثالثة، ممّا يوحي بعدم وجود استقرار في حياته الإجتماعية، فهو متهم مباشرة من أكثر من 15 امرأة بالتحرش الجنسي في أماكن وظروف مختلفة خلال العقود الثلاثة الماضية.

هذا مع العلم أنّ التحرش الجنسي من الأمور التي يعاقب عليها القانون بصرامة. يضاف الى ذلك ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» أخيراً من أنّ ترامب اشترى صمت إحدى بنات الهوى بمبلغ 130,000 دولار أميركي قبل الإنتخابات بشهر واحد، لكي لا تكشف علاقة جنسيّة كانت له معها عام 2005، أي بعد سنة واحدة من زواجه من زوجته الحالية ميلانيا.

أمّا على صعيد الصدق في التعاطي مع الآخرين، معروف عن رجل الأعمال دونالد ترامب أنّه سبق وأعلن إفلاسه أربع مرات في ظروف غامضة حيث استغلّ استثمارات الغير في مشاريعه، ممّا ساهم في مساعدته على بناء ثروة طائلة. ومعروف أيضاً عن ترامب رجل الأعمال والمرشح والرئيس أنّ الحقيقة ليست من حلفائه، إذ غالباً ما يُعطي معلومات بعيدة جداً عن الواقع ويبالغ في أمور أخرى من دون أن يرفّ له جفن.

من أحدث الأمور التي قالها وهي غير صحيحة إطلاقاً، ما أعلنه أخيراً أنّ سبب إلغاء زيارته الى لندن هو عدم رغبته في تدشين السفارة الأميركية في العاصمة البريطانية، لافتاً إلى أنّ أوباما نقل السفارة الى منطقة غير لائقة بعدما باع المبنى القديم بأبخس الأثمان على حدّ قوله، والحقيقة أنّ قرار نقل السفارة القديمة من وسط العاصمة حيث الحماية الأمنية صعبة جداً وبناء سفارة جديدة في منطقة أخرى اتُّخِذ أيام الرئيس جورج بوش الإبن وجاء تنفيذاً لقانون صادر عن الكونغرس وبثمن كاف لتغطية تشييد المبنى الجديد، بينما السبب الحقيقي وغير المعلن لإلغاء الزيارة هو تجنّب الحرج من المظاهرات الكبرى التي كان يجري الإعداد لها رفضاً للزيارة.

وعلى صعيد المواقف العنصرية، وعلى رغم نَفيه المتكرّر، معروف عن ترامب أنّه من العنصريين البيض الذين يكرهون السود، وقد أثار تصريح له في الأيام الأخيرة موجة كبرى من الغضب، حيث قال أثناء اجتماع له في البيت الأبيض مع قادة من الكونغرس لدراسة قانون جديد لقبول المهاجرين الى الأراضي الأميركية: «لماذا علينا استقدام مهاجرين من قذارة وحثالة الدول مثل هايتي وأفريقيا، بدلاً من استقبال مواطنين من النروج؟».

وواضح هنا تفضيله العلني للمهاجرين البيض، ولا داعي لذكر ردود الفعل القوية والرافضة لهذا الموقف العنصري سواء في الداخل أو على الصعيد الدولي. وممّا فاقم الأمر أنّ ترامب لم يتردَّد في اليوم التالي من نفي موقفه هذا الذي صدر أمام عدد من أعضاء الكونغرس، وفي ذلك ما يثبت ابتعاده عن الواقع والحقيقة بشكل فاضح.

نتيجة لذلك، إنّ نسبة التأييد لترامب متدنية جداً، ولا تزيد عن 35 في المئة من الأميركيين، وهي من أدنى النسب لأيّ رئيس أميركي في السنة الأولى من ولايته.

لسنا هنا في معرض انتقاد ترامب لمجرد الانتقاد والتركيز على السلبيات في شخصيّته، لأنّ صفاته المذكورة أعلاه كانت معروفة منذ بداية الحملة الإنتخابية، وذلك لم يحل دون فوزه بالرئاسة، ولكن لا بد من التساؤل ما إذا كانت أخلاقيات المرشح والقيم الإنسانية التي كانت أساسية في الماضي، لم تعد الآن من الشروط المطلوبة لدخول البيت الأبيض.

طبعاً، هناك أسباب كثيرة أدّت الى فوز ترامب بالرئاسة، ولكن نودّ هنا التركيز على التغيير الحاصل في عقلية ومتطلبات الناخب الأميركي والمجتمع الذي ينتمي إليه. ففي حين أنّ أيّ حالة من الحالات المذكورة أعلاه كانت في الماضي القريب كافية لإبعاد أيّ مرشح عن الوصول الى سدة الرئاسة، يبدو الآن أنّ أخلاقيّات المرشح لم تعد من الصِفات الأساسية المطلوبة للترشّح.

لقد كثرت الانتقادات التي يتعرّض لها ترامب لدرجة أنّ عدداً من أعضاء الكونغرس الديموقراطيين بدأوا يطالبون علناً بضرورة إجراء تقويم من قبل لجنة من الأطبّاء النفسيين لتحديد ملاءته العقلية للاستمرار في الرئاسة، كما أنّ هناك مطالبة متزايدة لتنحيته من قبل الكونغرس، لكنّ أياً من ذلك ليس محتملاً في المستقبل المنظور، إلّا في حال قيام الرئيس بعمل ما يُعرّض البلاد للخطر أو في حال توصّل المحقق العام الى نتيجة واضحة تثبت من دون أيّ مجال للشك تواطؤ ترامب في حملته الانتخابية مع روسيا.

ولكن قد يرى البعض في هذا المستوى المتدني الذي وصلت اليه النظرة الى البيت الأبيض في عهد ترامب، ليس فقط في الداخل بل أيضاً في المجال الدولي لدى الحلفاء كما لدى الخصوم، فرصة لإعادة الهيبة الى المركز الرئاسي الأول في العالم، بحيث يمكن أن تعود شخصية المرشّح وأخلاقياته والقيم التي يستند اليها في حياته اليومية الى ما كانت عليه في السابق، كما أنّ الإستقالات التي حصلت في الأسابيع الماضية في الكونغرس وإعلان عدد غير قليل من الأعضاء عن رغبتهم في عدم الترشح في الانتخابات التشريعية التي ستجري في تشرين الثاني المقبل، ومعظم هذه الإستقالات سببها اتهامات بالتحرش الجنسي أو التصرف غير المقبول مع النساء، كما استقالات شخصيات معروفة في عالم السينما والتلفزيون للأسباب نفسها، كل ذلك من شأنه إعادة أهمية الأخلاق في السلوك الشخصي الى الواجهة لدى من يودّ الترشّح لأيّ منصب حكومي، وخصوصاً الرئاسة الأولى.