IMLebanon

الموسم الرمضاني… خراب بيوت

كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”: 

نداء عاجل إلى كلّ امرأة تعاني من جِلدة حنفية منزوعة في البيت أو تحتفظ بفاتورة متأخّرة في الجارور، وإلى كلّ رَجل يشتهي طبخة ملوخية مثلاً أو يعاني من نقص في قمصانه المكويّة… على الجميع أن يبادر إلى تخليص معاملاته وتحقيق أمنياته، لأنّ كلّها 3 أو 4 أيام بالأكثر، وسيشهد لبنان والبلاد العربية معه انخفاضاً ملحوظاً في مستوى اهتمام الناس ببعضهم على المستوى الإنساني والاجتماعي، وستشهد الإدارات العامة تراجعاً دراماتيكياً في الفواتير التي يتمّ تحصيلها من المواطنين… وستشهد منازلنا أزمات بيبرونات وحنفيات، لأنّ الرجال والنساء سيكونون منشغلين بالمسلسلات والبرامج التي يتمّ تقديمها حصراً خلال شهر رمضان.

وبعيداً من العمق الديني والروحاني لهذا الشهر الفضيل ومعناه الحقيقي بالنسبة لملايين العرب، فقد تمكّن المنتجون ومعهم محطات التلفزيون من استثمار أيام وليالي هذا الشهر لإلهاء النساء والرجال وجميع أفراد العائلة عن مشاغلهم واهتماماتهم، وتسميرِهم أمام الشاشات لمدة 30 يوماً مشحونة بالحماس والترقّب والتحدّي.

وتكاد تصبح وظائف كثيرين ومسؤولياتهم اليومية ثانوية، ويصبح يومهم مقسّماً على حسب مواعيد العرض، قبل الظهر مسلسلات مصرية أو خليجية، بعد الظهر دراما سوريّة، وفي المساء أعمال لبنانية، وبَعد منتصف الليل عندما يصبح الانترنت ببلاش، تبدأ حفلات الداونلود ومصّ دم يوتيوب لكلّ لقطة تأخّرنا على مشاهدتها بسبب انشغالنا بتناولِ حبّة بونبون من خزانة المطبخ، حيث لا يوجد تلفزيون، لمكافحة الدوخة التي تطاردنا بسبب قلّة النوم.

وبسِحر ساحر، تتبخّر السياسة وهموم أهلها وزعمائها ومناكفاتهم بشكل شِبه كامل عن صالوناتنا، وتصبح نشرة الأخبار مجرّد محطة استراحة ما بين المسلسل وأخيه، ولا يعود الناس يعانون من عوارض الطائفية والتحزّب والعصبيات، ويصبحون مسالِمين أكثر من إخواننا في أيسلندا.

ولا يمكن توقّع حدوثِ أيّ أعمال شغب أو ثورات أو مظاهرات بالتوازي مع السباق الرمضاني، فمَن بالُه بسِعر البنزين وحقوق الموظفين والخروقات الأمنية والخلايا النائمة، طالما إنّ بطلة مسلسلِنا المفضّل تتعرّض للخيانة من حبيبها، وبطل مسلسل بعد نصّ ليل مشغول بحياكة خطّة للقضاء على خصومه…

وأضعفُ عمل درامي في رمضان قادر أن يوقف حرباً أهلية، ويُنقّي قلوباً مهرية، ويَجمع الأكثرية بالأقلية في سهرات ودّية. ولكنّ الخراب هو على البيوت، والجميع سيكون مقصّراً بواجباته البيتوتية فداءً للأعمال الدرامية.

ويكاد الموسم الرمضاني يُفقِد شركاتِ الإحصاء والرايتينغ عملَها أيضاً، لأنّ المزاج الشعبي والجماهيري هو وحده من يحدّد نِسبَ المشاهدة ومدى نجاح عمل أو تفوّقِه على الأعمال الأخرى، وهنا لا يمكن الغشّ في الذوق العام الذي يحوّل ممثّلين إلى نجوم والنجومَ إلى أساطير، ولا تعود الأرقام هي التي تفرّق الرابح عن الخاسر، ولكنّ تسريحة شعر البطل إذا أصبحت رائجة بين الشباب، أو جملة تُردّدها البطلة تبدأ في استخدامها الصبايا.

هذا الماراتون الرمضاني المضني يَرفع مستوى المنافسة عاماً بعد عام، وفي كلّ موسم يمكن ملاحظة الجهد الذي تبذله بعض شركات الإنتاج في العمل على نصوص أفضل واختيار نخبة الممثلين، حتى وإنْ كان سِعرهم أغلى، كلّه من أجلِ إثبات الوجود خلال رمضان، فيَضمنون العمل طوال أيام السنة.

وحتى الممثّلون أنفسهم يحاولون إثباتَ قدراتهم التمثيلية في كلّ عمل جديد، لأنّ رمضان هو وقت الامتحان. ويلجَأ كثير من المخرجين إلى حلبات عرضِ العضلات في التقنيات وأساليب التصوير، وأخذِ اللقطات الأصعب والأكثر تعقيداً.

ما يتمّ عرضُه في رمضان على مستوى البلاد العربية لا يمكن أبداً مشاهدته في شهر واحد، بل يحتاج إلى نحو عام… وإنّما بعض ما يتمّ تقديمه على الشاشات يؤكّد أنّنا شعوب عربية لا زالت تمتلك ذوقَ المشاهدة والانتقاد بحِنكة… ونبقى كلّنا أمل في أن تنتقل العدوى إلى باقي أشهر السَنة ويصبح السباق عرضاً متواصلاً، حتى وإن اخترَبت بيوتنا، لأنّ ما يهمّنا صراحةً أن تبقى أذواقنا بصحّة جيّدة.