IMLebanon

الشرق الأوسط رمالٌ متحركة تبتلع الجميع

كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:

في أواخر نيسان الماضي حصلت المواجهة العسكرية المباشرة الأولى بين إيران واسرائيل على الاراضي السورية. يومها، إنطلقت الطائرات الاسرائيلية في مهمة للثأر من إسقاط طائرة حربية اسرائيلية ما أدى الى كسر المعادلة العسكرية التي كانت سائدة حول حرية عمل الطائرات الاسرائيلية في الاجواء السورية، والأهمّ الرد على طائرة «الدرون» التي حاولت اختراق الأجواء الاسرائيلية.

في 30 نيسان الماضي نفّذت اسرائيل عمليتها العسكرية في سَعي لإعادة تثبيت المعادلة التي كانت قائمة، ولَو عبر تدشين مواجهة عسكرية مباشرة هي الأولى مع الجيش الايراني. قبلها، كانت اسرائيل قد اشتكت كثيراً لدى واشنطن، وكذلك لدى موسكو من القواعد العسكرية الجوية التي كانت القوات الايرانية تعمل على إنشائها في سوريا.

ومع انطلاق طائرة «الدرون» من مطار «تي. فور» في اتجاه اسرائيل قبل ان تُسقطها، بَدا لإسرائيل انّ الوقت قد حان لبدء عمليات عسكرية جوية بهدف ضرب البنية التحية العسكرية الإيرانية المزمع تثبيتها في سوريا.

وفي 9 ايار الجاري حصلت مواجهة اسرائيلية ـ ايرانية أوسع، حيث طاولت الصواريخ الايرانية المواقع الاسرائيلية في الجولان في مقابل صواريخ اسرائيلية طاولت عدداً من المواقع الايرانية في سوريا.

في الضربة الاسرائيلية الاولى لم تظهر مؤشرات حول إطلاع اسرائيل القيادة الروسية مسبقاً، لكنّ الطائرات الاسرائيلية عملت من ضمن المجال الجوي المسموح لها والمعتمد في التفاهم الروسي ـ الاسرائيلي عبر الاراضي اللبنانية. لكن في المواجهة الثانية كانت اسرائيل قد أبلغت مسبقاً القيادة الروسية التي ابلغت بدورها طهران. لكنّ المفارقة انّ القيادة الايرانية اعتبرت انّ الإنذار الاسرائيلي هو تهويل اكثر منه حقيقة، لاعتقادها أنّ الجيش الاسرائيلي لن يجرؤ على فتح باب المواجهات المباشرة بين البلدين، وانّ ما حصل في مطار «تي . فور» استثناء لن يتكرر.

ولذلك لم تنسحب العناصر الايرانية من الأماكن المحددة، وحصل ما حصل. والأهم انّ هذه المواجهات جرت بعد يوم واحد من اعلان البيت الابيض انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، ولا شك في انّ خيوطاً عدة تربط ما بين الحدثين.

وتزامَن ذلك مع افتتاح السفارة الاميركية في القدس، وهي أكبر واقوى ضربة تتلقّاها القضية الفلسطينية في تاريخها على الاطلاق، ما فتح باب المواجهات بين حركة «حماس» والجيش الاسرائيلي في قطاع غزة.

كل هذه الصورة الملبّدة أعطت الانطباع بأنّ حسابات الحرب بدأت تكتمل، وانّ ساعة الصفر لم تعد بعيدة.

إلّا انّ هذا الاستنتاج يبقى غير صحيح رغم خطورة الوضع الذي يلفّ الشرق الاوسط. فالمواجهة الايرانية – الاسرائيلية على الاراضي السورية ستبقى حدودها الساحة السورية، لأنّ الجميع يدرك أنّ استهداف اسرائيل الاراضي الايرانية لن يفتح فقط أبواب الحرب على اسرائيل من سوريا ولبنان، ولكنه أيضاً سيُلهب دول الخليج حيث الحرب اليمنية دائرة وتؤثّر على الاستقرار السعودي.

وهذه الفوضى التي ستحدث، ستعني أوّلاً خروج القدرة الاميركية عن السيطرة على الوضع في الشرق الاوسط، وبالتالي فتح الابواب واسعة أمام احتمالات كثيرة لمنابع النفط التي تسيل لعاب موسكو، وكذلك بكين، على حدّ سواء.

أضف الى ذلك انّ ايران، وبعد حربها الطاحنة مع العراق أيام صدام حسين، دفعت ثمناً باهظاً، ما جعلها تأخذ درساً بأنّ الحرب المباشرة هي آخر خيار يمكن ان تسلكه، كما انّ واشنطن بدورها ما بَرحت تستخلص الدروس المرّة جرّاء دخولها في حروب مباشرة في الشرق الاوسط. وهو بالضبط ما دفع إدارة الرئيس السابق باراك اوباما الى انتهاج استراتيجية الخروج من مستنقع الشرق الاوسط، فيما الرئيس دونالد ترامب وعلى رغم كل ما هو حاصل يُحاذِر التورّط، لا بل يسعى لضمان خروج جيشه من الشرق الاوسط من دون خسارة دور بلاده. ودعوته الى انسحاب الجيش الاميركي من سوريا أبرز دليل على ذلك.

ووفق كل ما سبق فإنّ الحرب المباشرة مع ايران لا تبدو واردة، لكن ما هو وارد وبنسبة مرتفعة هو عودة الحروب بالواسطة، خصوصاً بعد طَي صفحة حرب إسقاط النظام السوري. حروب بالواسطة ستكون الساحة السورية إحدى ميادينها بلا أدنى شك.

مواجهات بالواسطة بين ايران واسرائيل وبين الاتراك والاكراد وبين النظام وخلايا المجموعات المتطرفة، والتي من المرجّح ان تعاود نشاطها وظهورها.

خلال المرحلة الماضية نجحت روسيا في احدى مهماتها، والقاضية بمنع حصول حرب عسكرية مباشرة بين ايران واسرائيل. لكنّ الحرب بالواسطة مسموحة اذا لم تكن مطلوبة.

وفيما تستعدّ دمشق، ومن خلفها ايران وروسيا، لفتح معركة درعا والسيطرة عليها وطرد المجموعات المسلحة الموجودة على نحو 70% من مساحتها، فإنّ الأهم انّ هذه المجموعات المسلحة تتمتع بعلاقات قوية مع القيادة العسكرية الاميركية الموجودة في الأردن، وكذلك مع الجيش الاسرائيلي. ومن المنطقي الاستنتاج انّ نجاح عملية درعا ستعني اقتراب ايران وكذلك «حزب الله» من خطوط الجيش الاسرائيلي ومواقعه. في المقابل تخطّط اسرائيل لتوجيه ضربات جوية تسمح بإنعاش بعض معارضي الأسد في بعض المناطق، وفي موازاة ذلك ستشنّ «داعش» حرب عصابات تضرب خطوط تواصل الجيش السوري.

وتعتقد مراكز الدراسات الاميركية انّ الجيش السوري مرهق بعد سبع سنوات من الحروب والاستنزاف الداخلي، ووفق هذه المراكز فإنّ القدرة الهجومية للجيش السوري باتت تنحصر بعديد يقارب العشرين ألف جندي، وهم موزعون على: الفرقة الرابعة، الحرس الجمهوري، قوات «النمر»، وقوات «الدفاع الوطني». امّا عديد الجيش السوري فأصبح يتراوح ما بين مئة الى مئة وخمسين الف جندي، الى جانب قوات محلية تتولى مهمة المساندة عند الضرورة.

امّا مجموعات «حزب الله» في سوريا فتتراوح، وفق المصادر عينها، ما بين ستة الى ثمانية آلاف مقاتل، فيما الميليشيات المستقدمة من العراق وافغانستان وباكستان مكونة من عشرة الى عشرين ألف عنصر.

امّا عناصر الجيش الايراني فهي بحدود الألفي عسكري، وهي تنقسم بين خبراء وضباط متخصصين وجنود، فيما لروسيا قوة برية وجوية محدودة نسبياً.

ووفق هذه الدراسة فإنّ زهاء 12 الى 15 مليون شخص موجودون تحت سلطة النظام في سوريا. وبالتالي، ووفق قاعدة انّ لكل ألف مواطن يستوجب وجود 20 جندي، فهذا يعني انّ ما يحتاجه النظام في سوريا هو جيش من مئتي ألف جندي في الحد الأدنى.

لكنّ الدراسة عينها تلفت الى انّ المواقع الخارجة عن سلطة الدولة السورية مرهقة، لا بل مُستنزفة ومنقسمة بعضها على بعض ومضعضعة، وهي تتركّز في شكل أساسي في ادلب ودرعا والمناطق الخاضعة لسيطرة الاكراد في شمال شرق سوريا حيث توجد قوات اميركية وفرنسية. وفيما تستعد تركيا لدخولٍ أكثر فعالية في سوريا بعد انتهاء الانتخابات أواخر شهر حزيران، فإنّ أنقرة تسوّق لدى العواصم الغربية انّ استخدامها عناصر من «الجيش السوري الحر» المناهض للنظام في قتالها ضد الاكراد سيضمّ حماية جزء من القوات المعارضة للأسد.

امّا ايران فهي لم تستنزف قواتها العسكرية أبداً منذ انتهاء حربها مع العراق، وجيشها مؤلف من 450 ألف عنصر من بينهم زهاء 100 الف تابعين للحرس الثوري.

والأهم انّ «الحرس الثوري» في سوريا يكاد ينتهي من ترتيب هيكلية «حزب الله» السوري وبنيته، والذي سيكون جزءاً من التكوين السوري الطبيعي، أيّاً تكن الصورة المستقبلية لسوريا.

قد يكون الرئيس الاميركي يفضّل إحداث إنجاز سياسي تاريخي في الشرق الاوسط ومن ثم الانسحاب منه، مثلما كان يريد سلفه. لكن ما يحصل سيدفع واشنطن الى الانخراط فيه أكثر، وربما الغرق في رماله المتحركة.