IMLebanon

مؤشرات مقلقة للعهد… فهل يُبادر الى التصحيح؟

كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:

كل عهد أو حكومة جديدة تمنح فترة سماح سياسية ليصار بعدها إلى تأييدها أو معارضتها ومحاسبتها، ولكن ما حصل في مطلع عهد الرئيس ميشال عون قدّم مؤشراتٍ مُقلقة تستدعي التوقف عندها من جانب العهد تحديداً بغية تقييمها لمعرفة أسبابها.

يمكن القول انّ عهد الرئيس عون ليس كأيِّ عهد آخر بعد الطائف لسبيين: حيثيّته الشعبية وكتلته النيابية، ما يعني أنه يحظى باحتضان شعبي غير مسبوق، الأمر الذي يمنحه الحصانة لتنفيذ سياساته التي يفترض في هذه الحال أن تحظى بالغطاء الشعبي المطلوب، فيما الوقائع دلّت على عكس ذلك تماماً، ويكفي التوقف أمام المؤشرات الآتية:

أولاً، ملف الكهرباء واستطراداً البواخر، إذ في موازاة معارضة معظم مكوّنات الحكومة لكيفية مقاربة هذا الملف، فإنّ الرأي العام اللبناني وبغالبيّته الساحقة وقف ضدّ المقاربة المذكورة ورفضها بحدسه الشعبي لا على أساس معلومات موثقة، ما يقدّم دليلاً واضحاً على غياب عامل الثقة، فيما الأمور في هذا الملف لم تستقم إلّا بعد التزام الفريق المعني بشرطين أساسيَّين شكّلا محورَ رفضه طيلة المرحلة السابقة: فتح دفتر الشروط أمام خيارات عدة، والأخذ بملاحظات إدارة المناقصات.

ثانياً، الضرائب والعاصفة الشعبية التي هبّت لدى إقرارها والتي قدّمت دليلاً إضافياً أنّ الرأي العام لا يتفهّم ولا يتساهل مع أيِّ خطوة يمكن أن تنعكس سلباً على مصدر رزقه ولقمة عيشه وأسلوب حياته، فيما لو كان هناك حاضنة شعبية فعلية لكانت برّرت خطوةً من هذا النوع ووضعتها في إطار الضرورات التي لا بديل عنها، وإنّ لبنان لا يشكل استثناءً كون كل الدول تلجأ مضطرّة إلى فرض الضرائب، ولكن عدم التفهّم هو دليل، ومرة إضافية، عدم الثقة، إذ لو كانت الثقة متوفرة لكان الرأي العام على استعداد لتقبُّل أيِّ إجراء ولو على حسابه في حال كان باعتقاده يدخل ضمن خطوات ستعيد تعزيز الوضع الاقتصادي والمالي.

ثالثاً، الانتخابات النيابية والتي أظهرت أنّ شريحة واسعة من الرأي العام المؤيّد تاريخياً وتقليدياً لـ»التيار الوطني الحر» غادرته إلى مكان آخر على رغم أنّ التيار حقق حلمه أو هدفه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية وما زال في مطلع العهد وليس نهايته للحكم على أدائه وممارسته، الأمر الذي دفع أكثر من جهة للتساؤل والقول انّ التراجع في شعبية التيار ستكون حكماً مضاعفة في استحقاق ٢٠٢٢ ما لم يلجأ إلى تغييرات بنيوية في سياسته والإدارة التي تتولّى هذه السياسة.

رابعاً، ملف الجنسية الذي أثار عاصفةً لم تهدأ بعد على رغم أنه كان باستطاعة المعنيّين في هذا الملف الخروج إلى الرأي العام ومصارحته بالأسباب الموجبة التي دفعت إلى خطوة من هذا النوع، ولماذا لم تهبّ العاصفة نفسُها مثلاً لدى توقيع الرئيس ميشال سليمان في نهاية عهده مرسوماً مماثلاً وفي أعداد مضاعفة؟ ولماذا ما هو مقبول مع سليمان، والذي لا حيثية شعبية لديه على غرار عون، غير مقبول مع عون؟ وأسوأ الإجابات هي أنّ هناك مؤامرة تحاك ضدّ العهد، بل إجابات من هذا النوع تشكل هروباً إلى الأمام ورفضاً للإقرار بالوقائع، لأنه لا مؤامرة ولا مَن يحزنون، إنما ردّة فعل شعبية عفوية وسببها مزدوج: السبب الأول كونها أتت من الفريق الذي يزايد مع كل إطلالة شمس وغروبها بالجنسية والهوية إلى درجة العنصرية واللغة غير المقبولة إنسانياً، والسبب الثاني يتعلق بمحاولة تمرير المرسوم خلسة وبشكل تهريبة وشعور الرأي العام بغياب الشفافية والمصارحة.

خامساً، الأمن المتفلِّت، فإذا كان أحد لا يتوقع من العهد حلّاً لسلاح «حزب الله»، ولكن ما الذي يمنع مثلاً من وضع خطة أمنية لمنطقة بعلبك-الهرمل في ظلّ مطالبات من «حزب الله» نفسه بأن تتحمّلَ الدولة مسؤولياتها في استتباب الأمن، وناهيك عن الاستفزازات المقصودة والاستعراضات غير المقبولة.

ما تقدّم هو مجرد عيّنة عن ردة فعل الناس حيال استحقاقات وملفات محدَّدة وهناك غيرها الكثير أيضاً، ولكنّ هذه العيّنة أكثر من كافية للدلالة أنّ ثمّة خللاً فاضحاً في مكانٍ ما، إذ لا يُعقل ان تكون رئاسة تمثيلية بوزنٍ شعبيٍّ ونيابيّ وغير قادرة على تشكيل حاضنة شعبية للعهد وقراراته.

ويُخطئ العهد أو مَن يقف خلفه في حال واصل التعامل على قاعدة «الناس بتنسى»، لأنّ الانتخابات الأخيرة بيّنت أنّ الناس «ما بتنسى»، بل تحاسب، أو في حال أهمل دراسة الأسباب العميقة التي تجعل عهداً غير قادر على تمرير مرسوم تجنيس بحوالى ٣٠٠ اسم، أو غير قادر على تمرير خطة كهرباء…

وإذا أردنا القفزَ سريعاً إلى بعض الاستنتاجات يمكن وضع أسباب التراجع في أربعة أساسية:

السببُ الأول يرتبط بالحملة التي صورّت انتخابَ عون رئيساً بأنه يشكّل تاريخاً مفصلياً بين ما قبله وما بعده، فيما الأمور ليست كذلك إذ إنّ أحداً غير قادر على انتشال لبنان من الوضع الذي هو فيه بفعل العوامل الخارجية المؤثرة في مساره ومصيره، ولكن هذا لا يعفي العهد إطلاقاً من مسؤولية الصدمات الإيجابية التي كان بإمكانه تقديمها بثلاثة ملفات بالحدّ الأدنى:

وضع معايير صارمة في مقاربة الملفات والتعيينات وممارسة الشأن العام تُشعر المواطن أنّ كفاءته هي الفيصل، وأنّ الدولة بمؤسساتها حريصة على «جيبته» ومستقبله وليس الاستمرار في استنزافه، وأنّ القضاء قادر على إيصال الحق لأصحابه، وأنّ خريطة طريق إقرار أيّ مشروع هي القوانين المرعيّة.

والملفُ الثاني أمنيٌّ بامتياز، حيث إنّ عون هو قائد سابق للجيش وحليف للحزب الذي يطالب مبدئياً بخطة أمنية، وبالتالي يجب أن تضربَ الدولة بيدٍ من حديد، وأن يكون الأمن في لبنان ممسوكاً في كل المناطق اللبنانية.

والملفُ الثالث اجتماعيٌّ واقتصاديّ، فالناس لم تشعر تغييراً في مدخولها ووضعها الاقتصادي، بل ازداد وضعُها تراجعاً وسوءاً، والبلد يتّجه إلى الإفلاس في حال لم يُصَر إلى اتّخاذ قرارات جريئة وبنيويّة.

السببُ الثاني يتمثل في الأداء السياسي مع استلام الوزير جبران باسيل دفة القيادة والمسؤولية، والمكابرة لا تنفع في هذا المجال بل مردودها سيكون من السيّئ للأسوأ، فيما هناك مراجعة مطلوبة وصولاً إلى الفصل بين أمرين أساسيَّين: العهد وإنجازاته، ومستقبل باسيل السياسي، حيث لا يجب أن يكون سعيُ باسيل إلى الرئاسة على حساب العهد وانتظارات الناس منه، بينما نجاح العهد قد يسهّل، ربما، مهمّة باسيل الذي بسياسته يضرب صورة العهد تنفيذاً لمأربه، وبالتالي مع الدخول في المرحلة الجديدة بعد الانتخابات من مصلحة العهد في حال كان يريد أن يدخل التاريخ على طريقة عهد الرئيس فؤاد شهاب أن يضع قواعدَ فصلٍ صارمة بين المصلحة العليا للوطن، وبين المصلحة العليا لباسيل.

السببُ الثالث تراجع «التيار الوطني الحر» من كونه حالة شعبية إلى حالة حزبية، علماً أنّ الحزب الناجح يكون يتمتع بحالة تنظيمية وامتدادات حزبية وشعبية، وبالتالي على مؤسس التيار أن يبحث في الأسباب التي آل إليها وضعُ التيار في السنوات الثلاث الأخيرة، وأن يأخذ في الاعتبار أنّ استمرارَ الوضع على ما هو عليه يعني استمراراً في التدهور.

السببُ الرابع احتكاري واستئثاري، حيث يخطئ أيُّ فريق يمكن أن يعتقد أنّ بإمكانه تحقيق الإنجازات منفرداً، أو عن طريق سياسات مبهَمة وضبابية بالنسبة للرأي العام، فيما العهد لديه فرصة مهمة ولم تتوفر لغيره أنّ الركائز الأساسية التي ساهمت بانتخابه رئيساً مستعدة أن تكون ركيزة عهده الأساسية، ولكن على قواعد الشراكة والمشاركة، وليس الاستبعاد والاستئثار، والفرصة لم تفت بعد.

فكل ما يريده الرأي العام هو الشفافية وحكم القانون ودور المؤسسات والمشاريع الإنمائية والاهتمام بأوضاعه المعيشية واليومية، ولكن، ويا للأسف، قلق الناس على مصيرها يرتفع منسوبه، ونجاح العهد يتوقف أو يرتبط باستعادة ثقة الناس بالدولة، فهل يتّعظ من الفصل الأول لينجح في الفصل الثاني؟