IMLebanon

“صفقة القرن”: قصة 720 كيلومتراً بين رفح والنقب والضفة

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

«الربيع العربي» بدأ يفرز النهايات الدراماتيكية المطلوبة. وبعد اليوم، لن يسأل أيُّ عاقل: لماذا اندلعت الحرب الأهلية في الكيانات العربية، ولماذا تغيَّرت أنظمة وبقيت أخرى، وما مصير النازحين الفلسطينيين والسوريين؟ وكيف سترتسم حدودُ الدول الجديدة في الشرق الأوسط؟ وماذا تريد القوى الكبرى من كل هذه الفوضى، وهل هي الفوضى الخلّاقة أو الهدّامة؟ لقد هدأت فوهةُ المدافع أو تكاد، فقد اقترب زمنُ الأجوبة!

منذ عشرات السنين، تعمل إسرائيل لإنجاز «الصفقة» التي تريحها. لكنّ الظروفَ الدولية والإقليمية لم تكن مؤاتية، فجاءت نيران «الربيع العربي» لتُنضِج «الطبخة». وفي حروب «الربيع»، تمّ خلقُ الكثير من الخرافات، ومنها مثلاً «داعش» التي كان لها الدورُ الأساسي في إسالة الدماء.

واليوم، يسأل البعض بذهول: ترى، أين هو هذا «الغول» المسمّى «داعش»؟ وفي الموازاة، تبدو القوى الدولية كلها موافقة على الصفقة، «صفقة القرن»، فيما القوى العربية، شعوباً وأنظمة، أعادت صياغة مواقفها تحت تأثير الخوف على المصير.

مثلاً، دول «جبهة المواجهة» مع إسرائيل، سوريا ومصر والأردن والعراق ولبنان والفلسطينيون، واقعة- بشعوبها أو بأنظمتها- تحت وطأة الحروب الأهلية أو تداعياتها الكيانية أو السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية.

ولذلك، تبدو المرحلة مؤاتية لتصفية الملف الفلسطيني. فبعض الأنظمة يتصدّى لهواجس البقاء بإعلانه الموافقة على التسوية مع إسرائيل (سوريا ومصر والأردن)، فيما يعمل آخرون (لبنان والفلسطينيون تحديداً) للحدّ من الخسائر، لا أكثر.

وأما القوى العربية الغنيّة فتقع عليها مسؤولية تسهيل التسوية باستخدام رصيدها المعنوي والمادي. والثمن الذي تتقاضاه هذه الدول، من المجتمع الدولي، هو تأمين استقرارها لأجيال جديدة. وواضح أنّ الأولوية لدى هذه القوى هي استمرار الضغط الأميركي في وجه إيران.

والواضح أنّ إسرائيل في صدد تمرير «صفقة القرن» في عهد الرئيس دونالد ترامب، فيما تبدو أوروبا مشلولة أو منشغلة بأزماتها الاقتصادية، وتحت تأثير الخوف من عامل اللجوء والهجرة غير الشرعية، والسعي إلى الاحتفاظ بالحدّ الأدنى من المصالح في الشرق الأوسط.

إذاً، كل شيء بات جاهزاً. ووفق ما يتردّد في أقنية ديبلوماسية مختلفة، ستطلق الولايات المتحدة «صفقة القرن» في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، بعد التحضيرات الحثيثة التي أجراها الموفدون المعنيّون بالملف على مدى الأشهر الأخيرة، وبعدما باتت القوى المعنيّة جاهزة، باستثناء بعض الاعتراضات والتحفظات التي يتمّ تذليلُها بهدوء.

الموفد الأميركي جاريد كوشنير يعمل على وضع اللمسات الأخيرة على المشروع، قبل إعلانه، من خلال الجولة التي تقوده في الأيام الأخيرة إلى مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية… فيما تشهد سيناء إجراءات ميدانية يضعها الخبراء في سياق بالغ الأهمية.

فقد أنجز الجيش المصري عملية الفصل التي بدأها في 2014، بين مدينة رفح المصرية والأجزاء الأخرى من محافظة شمال سيناء، من خلال شريط شائك يمتدّ على 13.5 كيلومتراً من البحر، ويأخذ في طريقه نحو 5 كيلومترات من المدينة. وقد بات هذا الشريط العازل خالياً من السكان تقريباً. والحدود الجديدة للمنطقة تقع في موازاة الحدود الفاصلة بين مصر وقطاع غزة.

ويقول المطّلعون إنّ الهدف من هذه الخطوة، بعد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، هو التمهيد لمفاوضات فلسطينية- إسرائيلية تقود إلى إبرام اتّفاقٍ نهائيّ حول القضية الفلسطينية، قوامه شبه دولة فلسطينية في غزة وجزء من سيناء، في مقابل الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، على أن يقتصر الحقّ في العودة على قسم من اللاجئين الفلسطينيين، إلى هذه «الدولة» الموعودة، وليس إلى الضفة التي تعمل إسرائيل لتكريس نفوذها الكامل عليها وترسيخ المستوطنات فيها.

المطّلعون يقولون إنّ ما يجري في سيناء يشكل الخطوة الأولى لعملية تبادل كبرى للأرض والسكان بين مصر وإسرائيل والفلسطينيين وربما دول أخرى، استتباعاً. فالمشروع من شأنه أن يمنح الدولة الفلسطينية العتيدة واجهة حيوية تحتاج إليها على المتوسط.

وتقارب مساحة قطاع غزة الـ365 كيلومتراً مربعاً. والمساحة التي ستمنحها مصر لفلسطين تناهز الـ 720 كيلومتراً مربعاً. أي إنها بذلك ستبلغ 3 أضعاف المساحة الأساسية للقطاع. وهذا الأمر سيمنح سكانه المليون ونصف المليون قدرة على العيش في ظروف اقتصادية أفضل.

ومن المقرّر تعميم المشاريع الاقتصادية الجذّابة هناك لإغراء الفلسطينيين بقبول الصفقة. كما سيقود ذلك إلى منحهم فرصة المشاركة في استخراج النفط والغاز من مياه المتوسط.

وتقوم إسرائيل بتعويض مصر مساحةً موازيةً من صحراء النقب (وادي فيران). لكنّ التعويض الأكبر سيكون بالمشاريع الاقتصادية التي سيتدفّق بها المستثمرون العرب والأجانب، وبالنفق المقرَّر أن يمتدّ إلى الأردن، بطول 10 كيلومترات، والذي سيخضع لسيادة مصر وحدها.

وسيكون الرئيس عبد الفتاح السيسي مرتاحاً، من الناحية الوطنية، لأنه تنازل عن رقعة صغيرة جداً للفلسطينيين في مقابل حصول مصر على بقعة كانت تحتلّها إسرائيل. كما أنه سيكرّس السيادة المصرية نهائياً على سيناء، باستثناء البقعة الصغيرة من رفح.

وفي مقابل تنازلها عن 720 كيلومتراً مربعاً في النقب، ستحصل إسرائيل على نحو 720 كيلومتراً مربعاً، تساوي نحو 12% من الضفة الغربية.

وطبعاً، ستتمسّك إسرائيل بالقدس عاصمة لها. وفيما يتمّ التداول بطرح يمنح الفلسطينيين عاصمة في بلدة أبو ديس المجاورة للقدس، يعتقد خبراء أنّ هذا الطرح ليس سوى مناورة أيضاً. فإسرائيل ترفض منح الفلسطينيين عاصمة ذات بُعد رمزي، وهي تدفعهم إلى بقعة غزة- رفح.

وأما الأردن فيتمّ إغراؤه بفورة اقتصادية تنقذه من الأزمة التي هدّدت استقرارَه في الفترة الأخيرة، خصوصاً بسبب موقعه الجغرافي عند تقاطع المصالح والمشاريع، وبإنهاء أزمته الديموغرافية. فغالبية السكان من أصول فلسطينية، وهذا ما شكّل له دائماً عاملَ قلق داخلي.

وأما السعوديون وسائر الخليجيين فسيكون لهم الدور الأكبر في تمويل هذه الجنّة الاقتصادية الفلسطينية التي ستكون شبيهةً بمثيلاتها في آسيا، كتايوان مثلاً.

وسيكون الهدف الأساسي من هذه الجنّة هو تعميم التطبيع الاقتصادي بين دول الشرق الأوسط وإقناع الفلسطينيين بتغيير توجّهاتهم الوطنية «التقليدية» والقبول بالخيارات «البراغماتية» الحديثة.

حتى الآن، يعلن السيسي إصرارَه على حدود 1967، وتتمسّك السعودية بمبادرة بيروت العربية للسلام 2002، ويرفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يسجّل على نفسه أنه وافق على «صفقة القرن». ويتعاطى الملكُ الأردني عبدالله الثاني مع المبادرة الأميركية بتحفّظ. وأما الإسرائيليون فيطالبون بأبعد من المبادرة.

ولكن، في العمق، الأرجح أنّ الجميع يقترب من منطقة يتقاطعون فيها تحت تأثير الترغيب أو الترهيب. فـ»الصفقة» تقترب. وعند إبرامها سيتغيّر الشرق الأوسط بحدوده وسكانه للمرة الأولى منذ 100 عام. وكل الكيانات، بلا استثناء، ستتغيّر.