IMLebanon

الحلقة المفرغة للمالية العامّة في لبنان

كتب بوفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”: 

أخذت الملفات الإقتصادية والمالية للدوّلة اللبنانية بإحتلال الواجهة في الإعلام اللبناني كنتيجة طبيعية لتقرير صندوق النقد الدولي والذي أظهر التردّي الكبير في المالية العامّة ولكن أيضًا لغياب إصلاحات إقتصادية ستؤدّي حكمًا إلى إنهيار مالي إذا ما إستمرّ الوضع على ما هو عليه.

يعمد الكثير من الخبراء والسياسيين (عن قصد أو عن جهل) إلى مزج ثلاثة بيئات في المجال الإقتصادي اللبناني: البيئة الإقتصادية، البيئة المالية والبيئة النقدية. والأصعب في الأمر أن تفسيرهم للواقع اللبناني على صعيد هذه البيئات يدور كل الوقت حوّل إنهيار الليرة اللبنانية وهو تفسير خاطئ في الشكل والمضمون.

البيئة الإقتصادية

هذه البيئة هي من مهام الحكومة ويدخل في مجالها الإستثمارات، البطالة، الميزان التجاري، الفقر، توزيع الثروات، العدالة الإجتماعية، السياسة الإسكانية، البنى التحتية، البنى الخدماتية… وعلى هذا الصعيد، نرى أن كل المكونات عرضة بشكل مُستمر للتآكل، حيث أن الإستثمارات الأجنبية المباشرة (هي الأساس) ومنذ العام 2009 تراجعت بسبب التحوّلات الجيوساسية الإقليمية حيث إنخفضت من 4.8 مليار دولار أميركي في العام 2009 إلى 2.3 مليار د.أ في العام 2015 لترتفع إلى 2.6 مليار د.أ في العام 2017. وكما هو معروف في الإقتصاد، فإن لا نمو إقتصاديا من دون إستثمارات، وبالتالي فإن النمو الإقتصادي الحالي يعكس مستوى الإستثمارات الحالية. قلّة هذه الأخيرة (5.2% من الناتج المحلّي الإجمالي) تؤدّي إلى تراجع القطاعات الإقتصادية كافة وعلى رأسها الصناعة والزراعة وبالتالي تزيد البطالة وتقلّ الصادرات التي إنخفضت من 4.44 مليار د.أ في العام 2012 إلى 2.97 مليار د.أ في العام 2016. ومعها زاد العجز في الميزان التجاري إذ إرتفع من 12.8 مليار د.أ في العام 2009 إلى 17.3 مليار د.أ في العام 2013، ليعاود إنخفاضه في العام 2016 إلى 15.7 مليار د.أ كنتيجة لعدّة عوامل على رأسها إنخفاض القدرة الشرائية للمواطن اللبناني.

غياب الإستثمارات كان له تأثير على المكونات الأخرى مثال زيادة الفقر، وتراجع العدالة الإجتماعية وغياب السياسة الإسكانية وتآكل البنى التحتية والخدماتية كل هذا في ظلّ نزوح سوري أثقل الإقتصاد بلاعبين إقتصاديين غيّروا في القواعد الأساسية للعبة الإقتصادية. والنتيجة نموّ تراوح كل هذه الفترة ما بين 0.5% إلى 1.5% في أحسن الأحوال.

البيئة المالية

هذه البيئة هي أيضًا من مهام الحكومة ويدخل في مجالها المالية العامّة، الإنفاق العام، عجز الموازنة، الدين العام وخدمته…
الملاحظ أن إدارة الحكومات المُتعاقبة لهذه المكونات كانت أكثر من سيئة إذ أن سياسة الإنفاق المُفرط الناتجة عن التوظيف العشوائي في القطاع العام (تضاعفت كتلة الأجور ما بين العامين 2007 و2016)، التهرّب الضريبي، تفشّي الفساد، القطاع غير الرسمي (38% من الناتج المحلّي الإجمالي) الذي يحرم الدوّلة مداخيل هائلة… والأصعب في الأمر أن غياب النمو الإقتصادي حال دون إمتصاص العجز الناتج عن هذا الإفراط مما دفع الحكومة إلى الإستدانة عبر سندات الخزينة لتمويل هذا الإنفاق. هذا الواقع الأليم رفع الدين العام من 35.8 مليار د.أ في العام 2004 إلى 82.3 مليار د.أ في أذار 2018 مع بدعة الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة التي غابت من العام 2006 إلى العام 2017!

البيئة النقدية

هذه البيئة من مهام مصرف لبنان حصريًا ويدخل في مجالها السياسة النقدية مع مكوناتها ثبات العملة، ثبات الفائدة، ثبات الأسعار، النظام المصرفي، حماية الودائع… هذه البيئة وعلى عكس البيئتين الإقتصادية والمالية، حافظت على سلامتها من خلال السياسة النقدية التي إتبعها حاكم مصرف لبنان والتي كانت محاورها تدور حول:

أولًا – ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وذلك بهدف المحافظة على المُمتلكات.
ثانيًا – تثبيت أسعار الفائدة بهدف تثبيت تمويل الماكينة الإقتصادية.
ثالثًا – تنظيم القطاع المصرفي ودمجه في المنظومة المالية العالمية بهدف تأمين التمويل الخارجي ولكن أيضًا فتح المجال للتجارة الدولية مع لبنان.

دينامية تفاعل البيئات

من المعروف أن أساس خلق الثروات يعود إلى البيئة الإقتصادية التي من خلالها تتموّل الحكومات عبر الضرائب. وبالتالي فإن زيادة النشاط الإقتصادي الآتي من الإستثمارات يزيد من مداخيل الدوّلة اللبنانية وبالتالي يسمح لها بتنفيذ العديد من سياساتها الإقتصادية (إستثمارات حكومية) ولكن أيضًا سياساتها الإجتماعية (محاربة الفقر وخفض البطالة…). أيضًا من المعروف أن زيادة النشاط الإقتصادي له تأثيره على البيئة النقدية حيث من المعروف أن الإقتصاد القوي تنتج عنه عملة قويّة عملًا بالمبدأ الإقتصادي «العملة تعكس ثروة البلد».

هذا الواقع غير موجود في لبنان حيث أن النشاط الإقتصادي تراجع بشكل كبير وأثر على المالية العامّة عبر إنخفاض المداخيل الضريبية. وتردّي وضع البيئة المالية أثر بدوره على البيئة النقدية من خلال تراجع التصنيف الإئتماني للبنان مما تسبب برفع الفوائد.

هل هناك إنهيار؟

قبل الجواب على هذا السؤال، يتوجّب معرفة ماذا نقصد بكلمة إنهيار؟

طالما أن الإنسان يأكل ويشرب هناك نشاط إقتصادي وبالتالي لا يُمكن الحديث عن إنهيار إقتصادي بمعنى البيئة الإقتصادية. على صعيد المثال، الحرب في سوريا مُستمرة منذ العام 2011 والإقتصاد السوري ما زال يتمتّع بنشاط (-20% عمّا كان قبل الحرب).

البيئة النقدية غير قابلة للإنهيار (أقلّه على الأمد المتوسط) بحكم الكمّ الهائل من العملات الصعبة التي يُمكن للمصرف المركزي أن يؤمنّها (45 مليار د.أ إحتياطي العملات الأجنبية، 12 مليار د.أ إحتياطي الذهب، و12 مليار د.أ أصول المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة). إستحالة إنهيار البيئة النقدية آتية من منطلق أن النظرية الإقتصادية تنصّ على أن الثبات النقدي في ظل بيئة إقتصادية متآكلة ومالية عامّة متردّية، لا يُمكن أن يتحقق إلا بقدرة عالية على تأمين العملات الصعبة. وبالتالي نرى أن قدرة مصرف لبنان على تأمين 69 مليار د.أ أي ما يوازي 138% من الناتج المحلّي الإجمالي لا مثيل لها في العالم.

هذا الأمر يُمكن إثباته من خلال النظر إلى نمو الودائع التي وكما تُظهر البيانات إرتفع ما بين نهاية 2017 ونهاية نيسان 2018 إلى أكثر من 185 مليار د.أ!
إذا فإن الإنهيار هو إنهيار مالي بحت آت من تراكم الدين العام وإحتمال إرتفاع خدمة هذا الدين إلى مستويات تقارب فيها الدولة الإفلاس. من هذا المُنطلق، يتوجّب على السلطة السياسية الإسراع في تشكيل الحكومة وإجراء الإصلاحات الضرورية.