كتب أحمد كموني في “المستقبل”:
بلغ عدد إنذارات أصدرتها وزارات وإدارات رسمية مختصة ضد معامل ومصانع وبلديات ملوثة لنهر الليطاني رقماً خيالياً لم يسبق لجهات مماثلة في دول العالم «المتحضر» أو «الثالث» أن تصدت لمشكلاتها البيئية والصحية والاجتماعية على طريقة «التميز» اللبناني سالف الذكر. ويصبح الرقم مخيفاً، وربما عصيّاً على الملاحقة، اذا ما أردنا احتساب عدد الإنذارات الموجهة من الإدارات المعنية إلى «المتهمين إياهم» خلال العقدين الماضيين، وهو رقم يقدّر بمئات الانذارات والتنبيهات أعقب بعضها «كفّ» ناعم لمجموعة مصادر تلوث لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وهي بالمناسبة، مجموعة «ما بدلت تبديلاً».
ومثال «جعجعة من دون طحين» يصبح مثالاً خجولاً لا يعبّر عن كارثية التعامل الرسمي مع قضية خطرة بهذا الحجم، وإلا ما معنى هذا الكمّ من الإنذارات واستعراضات «قمع» التعديات، بينما النتيجة دائماً وأبداً، هي ذاتها في الأمس كما اليوم، نتيجة أبقت على السبب والمسبب، وأفسحت المجال أمام انضمام مصادر تلوث غير تقليدية.
ولأن «شر البلية ما يضحك»، حظي البقاعي، «المفلوج» بسبب عقم إدارة هذا الملف، «بفرصة عمل» من طراز جديد، ومجانية طبعاً، قائمة على «إشغاله» بمتابعة يومية «لبورصة» الجراثيم والأوبئة المتنامية يوماً بعد يوم في كافة مرافقه المائية، جوفية وسطحية، وبين حقوله ووديانه المليئة بالمكبات العشوائية وسواها من ملوثات.
ولأن «العد ماشي»، فمن المعيب مثلاً، أن تكون أعداد الجراثيم وأنواعها أقل من الأرقام المحققة لانذارات وتنبيهات الإدارات المعنية. «عيب» لا بد من تحقيق «المساوة»! معنوياً على الأقل. إذ كشفت دراسات حديثة لجمعيات بيئية وثانية لمصلحة الابحاث العلمية الزراعية صعوداً جنونياً ضاعف من نسبة التلوث في ينابيع ومجاري الأنهر البقاعية حتى مصبها جنوباً، فسجّلت بورصة المجرى الأساسي لنهر الليطاني ملياراً ومائتي مليون نوع من الجراثيم القاتلة، ليحقق قصب السبق من أقرانه، بينما سجل «البردوني» نهر عروس البقاع – زحلة، المخترق لسوقها السياحي والتجاري والرسمي «احتضانه» لمئة وأربعين ألف نوع من الجراثيم والفيروسات. وتواضعت حصة نهر الغزيل إلى 12800 جرثومة «فقط». أما حوض الليطاني – أي بحيرة القرعون – الضحية، «المسفوح» ماؤها وكائناتها ومحيطها البشري، فهي ما زالت منذ عقد ونيف «تقذف» بكل «مكنونات» تلك الانهر من أوساخ ومواد سامة قاتلة حولتها (البحيرة) من موئل للحياة والجمال، إلى مصدر للقتل البطيء يطيح بكل ما فيها وحولها من بشر وطبيعة وحياة مائية. في حوض الليطاني، بورصة الأرقام مرعبة، والمؤلم في قضيتها، أن البعض يدّعي قدرة السيطرة على واقعها المفجع من دون معالجة الأسباب ومعاقبة المرتكبين. وهؤلاء يصرون على «شطف الدرج من تحت».
هذه الأرقام ليست مرعبة من حيث العدد فحسب. بل أن خطورتها تكمن في ما أنتجته مصادر التلوث من جراثيم وفيروسات منذ سنوات وما زالت. وهي أدت إلى حدوث أمراض وأوبئة في كل التجمعات السكانية البقاعية وعلى وجه الخصوص في البقاع الغربي. وهي أطاحت حتى اليوم بمئات الضحايا من الابرياء الذين قضوا بأمراض كثيرة أخطرها الأمراض السرطانية، ومن بينها إصابات نادرة الحدوث. وفي هذا المجال، أظهرت دراسة صادرة عن مؤسسة طبية تتمتع بمصداقية عالمية، تمركز مسببات أمراض سرطانية في ثلاث قرى مجاورة لليطاني في البقاع الغربي تحفظ المسؤول عن الدراسة، على نشر أسماء هذه القرى، على أمل أن يأتي يوم تبادر فيه الجهات المعنية (دولة، وزارات، ادارات، بلديات..) للقيام بحل جذري، فهل يقدمون؟ أم أن «تغيير العوايد صعب؟». نأمل غير ذلك.
وبما أن عدد الانذارات مذهل، والأنكى، بقاؤها من دون فعل (الحسم والحزم) بحق المرتكبين، وبما أن مسببات التلوث «التقليدية» قائمة دون معالجة رسمية، بلدية كانت أم مركزية، سواء الناتجة عن مياه الصرف الصحي أو مكبات النفايات العشوائية إلخ، ولأن مصادر التلوث «التقليدية» في الحوض الأعلى من مصانع ومعامل ومستشفيات مكبات مزارع إلخ.. فاقت شهرتها وشهرة اصحابها، لأجل ذلك، يمكن التأكيد ان مصادر التلوث سالفة الذكر «شبشبت» نسبة لتاريخها الذي يرجع إلى عقدين من الزمن وربما أكثر. لكن المستجد الآتي إلى حلبة «المنافسة» بحق الليطاني خاصة في الحوض الإدنى، «تجلى» بالعدد الهائل والمرعب من كسارات ومرامل ومقالع، أصحابها من «حديثي النعمة» المدججة «برعاية بابازات» من السلطة، وأعداد مماثلة من «الصنف» ذاته تعود ملكيتها أو رعايتها لمرجعيات وقوى دخلت «ساح الجهاد» دون أي رادع قانوني أو وازع اخلاقي. وذريعتها أن «النهر بينظف حالو». لا بل أن بعض من شكّل ويشكّل مظلة لهؤلاء لا ينفك يندب حظ الليطاني والبحيرة ويطالب «الدولة» القيام بواجباتها لرفع التلوث! مع العلم، أنهم هم، الدولة بكل ما يعني مضمون هذه المفردة.
وإلى المستجد من مصادر التلوث، برزت مؤخراً بشكل بشع ظاهرة حرق مكبات النفايات في البقاع. فهذه المنطقة تقع تحت سيف انتشار المكبات العشوائية على طول مجرى النهر وفي الأودية القريبة وحتى عند سفوح الجبال والقمم. وأحصت مصادر بيئية ناشطة وجود ما يقارب 200 مكب عشوائي «يسهم» الحرق المقصود لغالبيتها برفع نسبة الجسيمات الناتجة عن عملية الاشتعال، الأمر الذي يؤدي بشكل مباشر إلى زيادة احتمال الإصابة بسرطان الرئة، وهذا ما بينته دراسات ومتابعات لوزارة الصحة التي حذرت مراراً من هذه الظاهرة التي تؤدي إلى تشكل مادة الديوكسين قرب المكبات المستهدفة بالحرق، وهي مادة مسرطنة تنضم إلى «أخواتها» من المسببات السرطانية المنتشرة في النهر وبحيرة القرعون ومنها مادة الزئبق.
يبقى أن الكارثة وقعت منذ سنوات ومفاعيلها متواصلة إلى أجل غير مسمى، وأي كلام، موقف، انذار، تنبيه، خطة إنقاذ إلخ، من دون إجراءات سريعة، صارمة، حازمة، رادعة بقسوة تصل مفاعيلها إلى مستوى ارتكابات المسببين أفراداً كانوا أم مؤسسات خاصة أو رسمية (بلديات)، لن يكون سوى «همروجة» تضيف تلوثاً إلى ما يحيط ببقاعنا وناسه الطيبين من تلوث مادي ملموس قاتل.