IMLebanon

ميقاتي: حكومة إختصاصيين وإنتخابات مبكرة

كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:

 

زاهد نجيب ميقاتي بالسلطة هذه الايام، وهو بحكمته المعهودة ورؤيته الثاقبة يعرف الواقع اللبناني وفسيفساءه السياسية والطائفية المعقدة على حقيقته، مدركاً المشكلات ووسائل معالجتها. والرجل لا يخفي خوفه على مستقبل البلد، ولكنه يتوقع أن يؤدي الحراك الشعبي الى «تغيير حقيقي في لبنان» داعياً المسؤولين للاستماع الى هذا الحراك جيداً، لأنّ الذين نزلوا الى الشوارع والساحات سحبوا الوكالة من الطبقة السياسية «وقال الشعب: طفح الكيل وكلكم يعني كلكم… لقد سحبنا وكالتنا منكم». ويرى أنّ «على الطبقة الحاكمة أن تقرأ هواجس المواطنين جيداً وتعالجها ضمن المؤسسات الدستورية قبل فوات الأوان». والمسؤولية في هذه المرحلة الدقيقة أشبه بكرة نار بين يدي من يتولاها، ولكنّ ميقاتي الذي يعتبر انّ «المهم هو سلامة الوطن»، وهو جالس بين بيروت وطرابلس يراقب ويتابع ويستشير ويُستشار، يرى انّ هناك إجماعاً على الحريري «لكي يكمل المشوار» الذي كان قد بدأه منذ 3 سنوات «لأنه أعلم بالثغرات التي لم تسمح له بتحقيق ما يريد». ويقترح ميقاتي للخروج من «الطريق المسدود» ان يُصار الى «تشكيل حكومة انتقالية وإقرار إصلاحات مالية وموازنة 2020، وإقرار قانون انتخابات جديد تليه انتخابات نيابية مبكرة». ويدعو الى التوقف عن «الانحرافات الدستورية»، ويقول: «طالما انّ الكتل السياسية تريد الحريري، فليؤلف الحريري حكومة اختصاصيين ويذهب الى المجلس وعندها تتحمل كل كتلة مسؤوليتها».. ويدعو الى الخروج «من العقلية والذهنية التي نتجت من سوء تطبيق «اتفاق الطائف» الذي كان «أحلى اتفاق وأسوأ تطبيق». ويقول: «يجب أن نبدأ بإلغاء الطائفية والذهاب الى الدولة المدنية مع المحافظة على الطوائف وأنظمتها الخاصة، وان يكون لنا مجلس نيابي غير طائفي ومجلس شيوخ يحمي الطوائف، ودولة مدنية يسودها التوظيف على اساس الكفاءة». ويعتبر «انّ السياسيين هم سبب تعطيل تنفيذ «اتفاق الطائف»، والمؤسسات التي أُنشئت بموجبه». ويدعو الى «إقامة التوازن بين الواقعين السياسي والاقتصادي، بإظهار انّ البلد يمارس استقلاله وسيادته ويأتَمِر بنفسه، وفي الوقت نفسه الاستفادة من أي دعم خارجي من دون تعريض البلد للعقوبات». في هذا الحوار مع «الجمهورية» يضيء ميقاتي على الأزمة التي تعصف بلبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً، وهنا وقائعه:
• أين الرئيس نجيب ميقاتي من كل ما يجري الآن؟

– هناك متغيرات كثيرة تحدث على الساحة اللبنانية اليوم، ونخطئ إذا أبقينا على الطريقة التقليدية للحكم بوجود هذا الجيل الجديد، من هنا ضرورة أن نستمع الى هذا الجيل جيداً لندرك هواجسه وإلّا سنصل حتماً الى طريق مسدود، ولسوء الحظ لم يتغير أي شيء في نمط التعاطي، بعد مرور أكثر من شهر على هذا الحراك الشعبي وعلى هذه الصرخة التي اعتبر انّ عمرها سنوات، وتحديداً مع بداية العهد الحالي حيث انتظر المواطنون الكثير من هذا العهد ثم تفاجأوا انها مجرد وعود اتخذت أحياناً منحى معاكساً لِما يتمناه الناس، إضافة الى ذلك فقد جرت انتخابات نيابية ولا أحد يسأل لماذا 60 في المئة من الناس لم يشاركوا في هذه الانتخابات.

الناس لم يشاركوا في غالبيتهم لأنهم يرفضون النظام المعلب والقوانين الانتخابية التي تظهر نتائج الانتخابات قبل إجرائها، وكان انخفاض نسبة المشاركة في الاقتراع مؤشراً واضحاً الى أنّ الناس غير راضية، في حين لم يعمل المعنيون على قراءة نتائج الإنتخابات جيداً واعادة تصحيح المسار، من هنا بدأت، في رأيي، الصرخة الكبرى والانتفاضة الحقيقية.

نحن الآن أمام وضع جديد من الضروري قراءته بنظرة مختلفة ومعالجته بطريقة مغايرة عما كان يحصل سابقاً، وهو يتمثّل بصرخات المواطنين الصادقة في الشارع، والذين لم تعد لديهم ثقة بالطبقة الحاكمة نتيجة الوعود المتكررة التي بقيت من دون تنفيذ.

وفي اختصار، الناس على الأرض يقولون لجميع المسؤولين اليوم «اننا سحبنا الوكالة منكم». ولا ننسى انّ الوقود الحقيقي لهذا الحراك هو الوضع الإقتصادي المتردي والازمات المعيشية وارتفاع سعر الدولار والبطالة والضرائب واخبار الصفقات التي تستنزف الخزينة العامة، وهي أزمات سبقت التحرك الشعبي وكانت السبب المباشر لاندلاعه.

• ولكن من نزلوا الى الشارع طرحوا شكوى ولم يطرحوا رؤية وانتظروا من الآخرين هذه الرؤية؟

– انهم يريدون من الطبقة السياسية ان تقدم رؤية للحل، لأنها صاحبة القرار لاسيما في السلطة التنفيذية، لكنّ هذه الطبقة السياسية لم تقدم سوى الوعود. نسمع بخطط متكررة لحل أزمة للكهرباء ولا نبصر نوراً. الشعب ينادي بحل مشكلة النفايات ولا يحصد إلا المزيد من الأمراض السرطانية نتيجة التلوث، المواطن ينادي بإصلاح الإدارة ولا يرى سوى مزيد من المحاصصة وتعيين الأزلام، ولذلك قال الشعب: طفح الكيل «كلكم يعني كلكم، لقد سحبنا وكالتنا منكم».

وانطلاقاً من هذا الواقع، أنا ارى من الآن انّ لبنان دخل في مرحلة جديدة مختلفة حتماً عن الواقع الذي نعيشه، وهذا الحراك الشعبي لا يمكن الّا ان يؤدي حتماً الى تغيير حقيقي في لبنان، خصوصاً انّ المسؤولين والسياسيين لم يقرأوا بعد انّ هذا الحراك الشعبي ناتج حقاً من وجع الناس واقتناعهم بأنّ الحل يكون ضمن المؤسسات الدستورية، ولكنهم لا يثقون بمن يمثّلهم وبما أفرزته الانتخابات النيابية.

• الحراك يطرح تأليف حكومة انتقالية يكون دورها الاعداد لانتخابات نيابية مبكرة سنة 2020، تعقبها انتخابات رئاسية مبكرة قبل سنة 2022؟

– حتى نخرج من الطريق المسدود ومن الوضع الذي نحن فيه اليوم ونفتح أفقاً جديداً، نحن في حاجة الى ثلاثة أمور أساسية هي أولاً تشكيل حكومة انتقالية، ثانياً إقرار إصلاحات مالية وموازنة العام 2020، وثالثاً إقرار قانون انتخابات جديد تليه انتخابات نيابية مبكرة.

من هنا ضرورة أن يكون هناك اتفاق، بين جميع الأطراف السياسية، على حكومة اختصاصيين، ببيان وزاري مختصر بالأساسيات، تأخذ ثقة مجلس النواب على أساسه، بعدها تفتح جلسة لمناقشة موازنة 2020 وإقرارها بمادة وحيدة، ثمّ يفتح الباب لقانون الانتخاب، ويحدد رئيس مجلس النواب مهلة أسبوعين بجلسات مفتوحة للانتهاء من مناقشته وإقراره بحيث يكون متوازناً مبنياً على أساس النظام النسبي، بحيث يقرّ هذا القانون الانتخابي، وتنص المادة الأخيرة منه على تقصير ولاية المجلس النيابي الحالي المنتخب عام 2018 من 4 سنوات الى سنتين تنتهي في 31 أيار 2020…

وبهذه الطريقة تنصرف الحكومة الى عملها الانقاذي بواسطة وزرائها الاختصاصيين، وتنشغل الطبقة السياسية بالتحضير للانتخابات المقبلة، ويعمل الحراك الشعبي الذي سحب الوكالة من الطبقة الحاكمة على الاستعداد لتوكيل أناس جدد يمثلون الشعب حقّ تمثيل، فيما تنشغل الحكومة بإنجاح نفسها وتنفيذ الخطط الاقتصادية والاجتماعية الانقاذية للبلد.

• كيف وصلنا الى هنا؟

– وصلنا الى ما وصلنا اليه بسبب التجاوزات في تطبيق الدستور وعدم التمسك بروحيته، وخير دليل ما يحصل اليوم على صعيد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة الجديد، فصحيح أنّ رئيس الجمهورية غير ملزم قانوناً بمهلة محددة للدعوة الى هذه الاستشارات، لكنّ هذا لا يعني أنّه قادر على التأليف قبل التكليف، فما هذه البدعة؟

وكيف ينعقد اجتماع اقتصادي في القصر الجمهوري يحضره 3 وزراء من حكومة تصريف الاعمال ولا يدعى رئيس الحكومة، أليس هذا تجاوزاً؟ إنّ كلّ تجاوز للصلاحيات وإنحراف عن الدستور سيؤدي حكماً الى الانهيار الذي نحن فيه، لقد بدأنا بالانهيار وهذا سببه البدع التي تحصل على هامش الدستور، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ونحن ذاهبون بأرجلنا الى النار، اذا لم يتم تدارك الأسوأ سريعاً.

• تحدثت عن برنامج عمل ضروري للحكومة، فهل برأيك الحراك الشعبي يريد برنامج عمل أولاً أم وجوهاً توحي بالثقة؟

ـ من الصعب إرضاء جميع الناس بكل الشخصيات، من هنا فإنّ الأولوية هي للبرنامج، الذي يجب أن يكون واضحاً بحذافيره ويتضمن موازنة وخطة اقتصادية واضحة المعالم على رأسها التعاون مع مصرف لبنان لإجراء الإصلاحات الضرورية والالتزام بجدول زمني، وثم النظر في هيكلة الدين طوعياً حتى لا تفرض الهيكلة علينا من الخارج إجبارياً.

لا يمكن الاستمرار بنهج المراوحة وكأنّ شيئاً لم يتغير في البلد، والمواطن يريد بالحد الأدنى خطة للكهرباء يتم تنفيذها تحت مراقبة هيئة ناظمة اختصاصية، وغيره وغيره من الإصلاحات. لا نريد عناوين بل نريد تنفيذاً بتجرد وليس ضمن مبدأ المصالح المتبادلة، كما كان سائداً.

• لقد طرحت برنامج عمل لحكومة، هل أنت مرشح لتولي رئاسة الحكومة المقبلة؟

– كلّ منّا يدرك دقة المرحلة وحساسيتها، من هنا أرى انّ الرئيس سعد الحريري هو الأنسب لكي يكمل المشوار، لأسباب عدّة أبرزها أنه ركن من أركان التسوية الرئاسية ومضت 3 سنوات وهو يكافح في هذا الموضوع. نجح او لم ينجح، هذا شأن آخر، لكنه أعلم بالثغرات التي لم تسمح له بتحقيق ما يريده، واليوم لا نملك رفاهية الوقت لكي نأتي بشخص آخر ونجرّبه في الحكم.

• ولكنك أنت مجرّب؟

ـ في هذا الظرف بالذات تجمع الكتل السياسية من مختلف الاطراف على الرئيس الحريري. وبناء عليه من الأفضل أن يتابع مسيرته بوزراء اختصاصيين، وببرنامج واضح ضمن مهل محددة، لنصل الى الانتخابات النيابية المبكرة، فالأساس سلامة الوطن.

• في ظلّ هذا الوضع هل يمكن لحكومة اختصاصيين ان تحكم البلاد بلا سياسة، وهل تشعر أنّ هناك رغبة حقاً بتشكيل حكومة، أم أنّ هناك رغبة في التعطيل؟

– البداية تكون بالعودة الى الأصول الدستورية، بدءاً من الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، ليكلّف في ضوئها رئيس حكومة، يجري استشارات وبعدها يضع تشكيلة حكومية ويقدمها لرئيس الجمهورية الذي يبدي ملاحظاته من دون عرقلة، ثم تتقدم الحكومة من المجلس النيابي لنيل الثقة. إن من لا يريد حكومة هو من لا يطبّق ألف باء الدستور اليوم، ولهذا السبب فإنّ الأمور اليوم مختلطة ببعضها البعض.

إنّ الوضع اليوم لا يتحمل ترف الانتظار، وترف المصطلحات التي لا جدوى منها في شأن حكومة تكنوقراط او مختلطة. هذا الجدل لا طائل له طالما أنّ الكتل السياسية تريد الحريري، فليؤلّف الحريري حكومة اختصاصيين ويذهب الى المجلس وعندها تتحمّل كل كتلة مسؤوليتها، هكذا تتوقف الانحرافات الدستورية التي من شأنها أن تؤدي بالبلد الى الهاوية لا محال.

• أليس تشكيل الحكومة قبل التكليف هو تجاوز لإتفاق الطائف والدستور؟

– طبعاً انه تجاوز فاضح للدستور كما شرحت سابقاً، ونحن نعيش اليوم نتيجة تراكم التجاوزات الدستورية التي حصلت خلال العقود الماضية وآخرها بدعتان هما: أوّلاً اتفاق الدوحة و»الثلث المعطّل»، وثانياً التسوية الرئاسية. لذلك، من الضروري العودة الى الأساس وحسن تطبيق الدستور.

• هل للحراك أجندات خارجية برأيك؟

– انّ تضييع قيمة الحراك الأساسية يعني غَض النظر عن وجع الناس الحياتي. ما من لبناني لا يريد مستقبلاً أفضل لأولاده، وما من لبناني لا يريد تساوي الفرص بين اللبنانيين، وما من لبناني لا يريد قضاء عادلاً ومستقلاً، والإنماء المتوازن فعلاً لا شعاراً… من الضروري أن لا نلغي قيمة الحراك بالحديث عن مؤامرات ودول تموّله وتقف خلفه، بل على الطبقة الحاكمة أن تقرأ هواجس الموطنين جيداً وتعالجها ضمن المؤسسات الدستورية قبل فوات الأوان.

الحراك الشعبي لا يتحرك على أساس طائفي لأنّ المشكلات المعيشية عابرة للطوائف والوجع وَحّد اللبنانيين. «خلصنا بَقا» من العقلية والذهنية التي نتجت من سوء تطبيق «اتفاق الطائف» الذي كان «أحلى اتفاق انعَمَل وأسوأ تطبيق إلو صار».

تحكمت بنا الأعراف والبدع حتى صار كل ما يحصل غير مقبول. يجب أن نبدأ بإلغاء الطائفية والذهاب الى الدولة المدنية مع المحافظة على الطوائف وأنظمتها الخاصة، وان يكون لنا مجلس نيابي غير طائفي ومجلس شيوخ يحمي الطوائف ودولة مدنية يسودها التوظيف على أساس الكفاءة… كل هذه الامور يلبّيها «اتفاق الطائف» فلنطبّقه كاملاً بدلاً من الاجتزاء والتحريف والبدع.

انّ السياسيين هم سبب تعطيل تنفيذ «اتفاق الطائف»، والمؤسسات التي أنشئت بموجبه، ومنها المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني للإعلام، لم تحقق الغاية المرجوة منها، لأن كلّاً منهم يريد الاتيان بجماعته الى هذا المركز او ذاك إضافة الى إقرار قوانين انتخابات تتعارض مع جوهر الدستور، ناهيك عن التقاعس في إقرار اللامركزية الإدارية. ولذلك ينبغي اعادة تأسيس النظام بموجب «إتفاق الطائف» والأهم حسن تطبيقه.

• في ضوء كل ما يجري من السياسي الى الاقتصادي، هل ترى ان هناك من يدفع بلبنان الى الانهيار؟

ـ شطارة السياسي هي أن يقيم التوازن بين الواقعين السياسي والاقتصادي، سياسياً عليه ان يظهر انّ البلد يمارس استقلاله وسيادته ويأتمر بنفسه، وفي الوقت نفسه الاستفادة من اي دعم خارجي من دون ان يتعرض البلد للعقوبات.

توصيف الوضع الاقتصادي

• هناك نظريتان في الإقتصاد، الأولى تقول انّ العقوبات الأميركية هي وراء تردي الوضع المالي، وأخرى تحمّل حزب الله المسؤولية الكاملة. كيف تنظر الى النظريتين؟

– ما وصلنا اليه اليوم هو عبارة عن تراكمات وسوء ادارة المحفظة المالية، وهذا الامر بدأ منذ اعوام طويلة. الطبقة السياسية هي المسؤولة عن السلطة المالية، في حين ان مصرف لبنان مسؤول عن السلطة النقدية. وما حصل انّ السلطة المالية أمرت السلطة النقدية بالمحافظة على سعر النقد، والاخيرة ليست مسؤولة عمّا صرفته السلطة المالية من دون تبرير وفي غير مكانه.

المشكلة الاقتصادية هي داخلية بحت بسبب عدم وجود رؤية أو خطة اقتصادية طويلة الأمد مع الاستمرار في الاستدانة من اجل تغطية عجز الكهرباء، وبالتالي تراكم الفوائد على دين غير مُجد، حتى وصلنا إلى حال من العجز المستمر تضاف اليه التوظيفات السياسية العشوائية وغياب المراقبة الحقيقية من المجلس النيابي بسبب ما يسمى حكومات الوحدة الوطنية.

• اذاً، مصرف لبنان والمصارف لم يخطئوا في سياساتهم المالية؟

ـ يجب التمييز بين السلطة المالية والسلطة النقدية. مصرف لبنان يضع خطة نقدية للتحكم بالتضخم وسعر الصرف، وهو كان يقوم بواجبه تجاه السلطة المالية لتلبية حاجتها لتمويل عجز الموازنة المزمن والمتراكم نتيجة غياب أي خطة لدى السلطة المالية كما اسلفت سابقاً. اليوم وصلنا إلى ما وصلنا اليه، وبدلاً من عجز واحد أصبحنا في عجزين، الاول في الموازنة والثاني في ميزان المدفوعات (Twin deficit).

وعليه أصبحت السلطة السياسية عاجزة، وهي في حاجة الى «كبش محرقة» لكي تغطي عجزها، لذلك اتهمت مصرف لبنان والمصارف، هذا هو الواقع تحديداً. مصرف لبنان لم يضع الموازنات وليس مسؤولاً عن العجز، مصرف لبنان سعى ليؤمن متطلبات الدولة بأقل ما يمكن من فوائد وبأحسن الشروط. من هنا أقول انّ السلطة السياسية هي المسؤولة، فهي من يقرّ الموازنات ولا تحتسب حساب العجز. خطأ مصرف لبنان انه رغم تحذيراته المتكررة للسلطة السياسية كان عليه ربما فرملة الصرف.

في الأعوام 2008 و2009 و2010 دخلت مبالغ كبيرة من الاموال الى البلد، وتمتعنا بـ«البحبوحة». لو استفدنا منها كما ينبغي، لما كنّا وصلنا الى هنا. لو «خَبّينا قرشنا الأبيض ليومنا الأسود»، لما كان حصل ما يحصل اليوم.

وهنا أعطي مثالاً على ذلك، مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي حوّلته حكومتي الى مجلس النواب مع خطة كاملة لتمويلها مرفقة بسلسلة من الإصلاحات الإدارية المطلوبة. ما الذي حصل؟ أقرّت السلسلة بعد ثلاث سنوات وقبل الانتخابات النيابية ولغاية شعبوية بزيادة كبيرة عن كلفتها الأصلية ومن دون وضع خطة لتمويلها او التطرق إلى الإصلاحات الاساسية، وهذه السلسلة زادت في نسبة العجز، وتم التعاطي معها بخفة على رغم تحذيراتنا المتكررة من الانعكاسات السلبية لهذا الأمر.

إقتراحات للمعالجة

• هل تؤيد تشريع «الكابيتال كونترول» لمنع تهريب الاموال كما يحصل حالياً؟

– الازدهار الذي وصل اليه لبنان كان نتيجة اعتماد الحرية الاقتصادية، وبالتالي فقد استند القطاع المصرفي الى مبدأ الحرية بشقيها: حرية التحويل والسرية المصرفية. انّ تقييد الحرّيات عبر تشريع «الكابيتال كونترول» ينسف مبدأ الحرية التي هي بمثابة الاوكسيجين للقطاع المصرفي، وعلينا المحافظة على هذا القطاع بموظفيه الـ 26000 لأننا بدأنا نشعر منذ نحو سنة بتقليص دور القطاع الخاص. القطاع الخاص في لبنان هو حامي الحريات الاقتصادية، والحديث عن تقييد الحريات بدءاً بالاقتصاد يؤدي الى الاتجاه نحو الديكتاتوريات ولاسيما منها الديكتاتورية السياسية، وهذا يناقض كل سياسات لبنان.

أمّا في ما يتعلّق بضوابط حريّة النقد التي بوشر تطبيقها، فهي لن تحقق النتائج المرجوة، بل يجب اعتماد خطة إصلاحية كاملة متكاملة باتت عناوينها معروفة ولكن تبقى العبرة في تطبيقها. وعلى المصارف اليوم ان تلتزم بتعميم مصرف لبنان في ما يتعلق بزيادة رأس المال وتطمين المواطنين الخائفين على ودائعهم، والمساهمة في اعادة الثقة الى القطاع المصرفي في لبنان.

• قلت انّ الإنهيار بدأ، ونحن أمام نماذج عدّة للانهيار (اليونان، الارجنتين، فنزويلا) والناس متخوّفة؟ في أيّ اتجاه يذهب البلد؟

ـ بمجرّد تشكيل حكومة تحظى بالثقة، فإنّ بإمكانها «فرملة» الإنهيار، ووضع لبنان على الطريق الصحيح. والشرط الاول للثقة، يقضي بأن يشعر كل مواطن أنّ الطبقة الحاكمة سمعت وجعه وأنّ مطالبه بدأت تتحقق.

ملفات الاسكان والخلوي

• يتمّ التداول باسمك في ملفي القروض الإسكانية والهاتف الخلوي، ماذا تقول في هذا المجال؟

ـ في خلال 20 سنة من العمل في الشأن العام وستة اعوام كوزير، ومرتين رئيساً للوزراء، أتحدّى أن يقول أحد أنني ساهمت في فساد من أيّ نوع كان، أو انني مددت يدي على المال العام، وهذه من المحرّمات عندي. اما إثارة ملفي القروض المصرفية، بذريعة انّها قروض اسكانية، والهاتف الخلوي وربطهما بإسمي، فهو يهدف الى النيل من سمعتي، ومنّي شخصياً عبر تسييس هذه الملفات.

في ملف الهاتف الخلوي اذكر اننا كنا اول من استقدم الهاتف الخلوي الى البلد بعد الحرب مباشرة. وعندما اقرّت الدولة اجراء مناقصة لهذا القطاع، تقدّمت شركتان، واحدة فنلندية وأخرى فرنسية (فرانس تيليكوم). وكانت الشركة الفرنسية تبحث عن شريك «تقني» في البلد، ونحن كنا نملك البنى التحتية التقنية للهاتف الخلوي في لبنان، ولكنني لم اكن يومها وزيراً ولا نائباً، فاختارونا، علماً انّ من أصل 9 أعضاء في مجلس الإدارة كان لدينا 3 أعضاء، لأنّ وزارة الاتصالات اشترطت على الشركة الفرنسية بموجب العقد، ان تكون للشركة الفرنسية الاكثرية المطلقة، بما يعني انّ قرارات مجلس الإدارة كانت تُتخذ بالأكثرية، أي أنّ القرار ليس في يدنا.

ووقّعت شركة «فرانس تيليكوم» إتفاقاً مع الدولة اللبنانية تمّت المصادقة عليه في مجلس الوزراء، حيث حدّدت الحكومة اللبنانية جدول التعرفة التي يحق للشركة ان تتقاضاها.

ويقول القرار المُصادق عليه في مجلس الوزراء ما يلي: « تنشئ كل من الشركتين شركة مستقلة كاملة متكاملة تغطي كافة الأراضي اللبنانية، ومدّة الإستثمار لا تتجاوز الـ 12 سنة، رسم الوصل على الشبكة 500 دولار، الاشتراك الشهري 25 دولاراً، التعرفة على دقيقة التخابر هي 5 سنتات».

ويقول القرار ايضاً، إنّ حصة الدولة في السنة الاولى 20 % من المداخيل، ثم ترتفع النسبة تدريجاً الى 30 و40 ومن ثم 50 % إضافة الى تقاضي الدولة الضريبة على القيمة المضافة». وفي العودة الى رسم التأسيس، قرّرت الدولة اللبنانية ان يبلغ 500 دولار. كما نصّ القرار، انّه في حال قطع خط المشترك، تتقاضى الشركتان مبلغ 500 دولار اضافي لإعادة وصل الخط.

واللغط الحاصل انّ البعض يعتبر انّ الـ 500 دولار هي كفالة قابلة للاسترداد، بينما حقيقة الامر انّها رسم تأسيس لوصل الخط على الشبكة، وهذا واضح كما اسلفت. ولا بدّ من ان اشير الى انّ الحملة التي شُنّت وأدّت الى استرداد القطاع من الدولة ركّزت انّ هذا القطاع هو بترول لبنان وسيسد عجز الدولة، وها اننا نرى اليوم كيف الى اين وصل سوء الادارة بهذا القطاع من تردّي الخدمات وتراجع الايرادات .

• وماذا عن قرار التحكيم؟

ـ نصّ الاتفاق الموقّع بين الدولة اللبنانية والشركة المشغلة على أنّه في حال وقوع أي خلاف بين الدولة اللبنانية والشركة يلجأ الطرف المتضرّر الى التحكيم الدولي. وحيث انّ الحكومة اللبنانية قرّرت استرجاع حق الاستثمار قبل انتهاء مدة العقد، لجأت الشركة الفرنسية الى التحكيم الدولي، وقد صدر قرار التحكيم الدولي عام 31/1/2005 ولم اكن في حينه في موقع المسؤولية. وفي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تمّ دفع المبلغ المُتفق عليه بموجب التحكيم للشركة الفرنسية. هذه هي قصة الخلوي بكاملها، وهذه هي الحقيقة التي يحاول البعض تشويهها وتحريفها لغايات سياسية.

• وماذا عن القروض الاسكانية؟

– لنبدأ من الاول، هذه ليست قروضا أسكانية أو مدعومة ولا علاقة لها بمال الدولة او بصندوق الاسكان، ولم تُؤخذ من درب الناس كما يصور البعض لغاية التشويه السياسي، بل هي قروض مصرفية تمّ إستلافها من مصرف تجاري، ناهيك ان لا علاقة لي شخصياً بالقروض .هناك نوعان من القروض الاسكانية التي تمّ إعتمادها في السنوات الـ15 الأخيرة، قروض مدعومة وقروض غير مدعومة.

القروض المدعومة عبارة عن إتفاق حصل بين مصرف لبنان، و12 مؤسسة في لبنان بينها مؤسسات قوى الأمن والجيش، محدّدة بسقف فوائد بين 2 و3 % وبمدة سداد بين 20 و30 عاماً، وقد أعطى مصرف لبنان لهذه القروض ما مجموعه 13 مليار دولار، ونحن لا دخل لنا بهذه القروض.

اما النوع الثاني من القروض الذي قدّمته المصارف من خلال استخدام جزء من المال الاحتياطي الذي تملكه في مصرف لبنان، حسب التعميم الصادر عن المصرف المركزي، فهي قروض غير مدعومة ومن اموال المصارف، لا من اموال الدولة، وبفائدة سقفها متحرّك. وقد نصّت شروط منح هذه القروض بمنع بيع العقار الذي يتمّ تملّكه بواسطة هذه القروض، لمدة 7 سنوات، بهدف منع استخدام القروض للمضاربة العقارية.

وهنا أشير الى انّ المصارف التجارية استخدمت نحو 8 مليارات من احتياط اموالها لدى مصرف لبنان في القروض الإسكانية غير المدعومة، واستفاد منها 7 آلاف شخص من لبنان، وأولادي من بين الـ 7 آلاف شخص الذين استفادوا من هذه القروض، علماً انّ مجمل ما استدانوه يبلغ فقط صفر فاصلة 2 % من مجمل هذه القروض. فأين الإثراء غير المشروع؟ وأين الجرم الحاصل، اذا كنا قد اقترضنا من المصرف أموالاً غير مدعومة، كما قلت، وسدّدنا القروض وفق القانون والاصول؟

إنّ التصويب السياسي علينا في هذا الملف لن يغيّر في الواقع القانوني السليم شيئاً، ولكن المفارقة انّ كل من يتناول هذا الملف عبر الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يُنصّب نفسه مدعياً عاماً، فيكيل الاتهامات من دون المام بالملف. وفي النهاية طالما أنّ الموضوع اصبح في يد القضاء فالكلمة الفصل له.