IMLebanon

من فِعل الإيمان إلى الإيمان.. بالفعل!

كتب  جان هاشم في “الجمهورية”:

جميل ومهمّ، كالثورة وشبابها، هذا الذي انتشر على مواقع التواصل منذ أيّام، «أنا فلان الفلاني أفتخـر بكوني لا أنتمي لأي جهة ولا لأي حزب، وإنّ انتمائي وولائـي وحزبي وتـاج راسـي الوحـيد هـو لبنان… وأُعلن بـراءتي من كل الاحـزاب والتيارات والزعماء، وأرفـع هـذا الـتحدّي الى جميع أصـدقائي ولأي شـخصقـادر عـلى الـتحدّي».

إنّه فعل إيمان وإعلان مبادئ وعقيدة، في ما يُشبه طقس المعمودية عند المسيحيّين «أكفر بك أيّها الشيطان… وأؤمن بك أيّها الله الآب…»، أو ما يرِد في سورة الفاتحة وغيرها «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم… باسم الله الرحمن الرحيم…». وقد جعلوا ذلك تحدّياً لعلمهم أنّه ليس من السهل على صاحب العقيدة أن يتخلّى بسهولة عمّا آمن به أو ربِي عليه وشكّل قناعاته على مدى عُمرٍ…

جميل ومهمّ لأنّه ينمّ عن وجود جيل، أو بعض جيل، بات من نافل القول أنّه يرفض القناعات والإيديولوجيات والسياسات التي أوصلت الوطن إلى ما هو فيه الآن من تخبّط على حافة الانهيار. هو هذا البعض المندفع في الثورة بكل قواه لينقذ ما يمكن إنقاذه، ولإرساء مفاهيم جديدة تطبع مسلكياته ويطمح إلى فرضها على كلّ من يريد التعاطي في الشأن العام.

أملهم، وأملنا جميعاً، أن يعمّ وينتشر فعل الإيمان هذا ليشكّل محفّزاً وبداية لسياسات جديدة مختلفة في بناء الوطن، لكنّ قناعتي، مثل الكثيرين، هي أنّ ذلك غير كافٍ لتحقيق المَرجو. فإذا كان المطلوب والملحّ هو هدم البنى الواهية القائمة، وإسقاط المفاهيم البالية، وتحطيم الأصنام الزعاماتيّة، إلّا أنّ الملحّ أكثر هو العمل على إيجاد البديل الفاعل والفعّال من كلّ ذلك. لأنّ من يثورون عليهم لا يقفون متفرّجين بل يقفون لهم بالمرصاد، وها هم يشغّلون ماكيناتهم وأدواتهم لكي يرهِّبوا الثوار ويثبِّطوا عزائمهم، ولكي ينقضّوا عليهم قامعين عندما تدعوهم حاجتهم. وإذا كان الثوّار قد نجحوا في كسر الطوق الأوّل وفرضوا ما فرضوه حتى الآن على السلطات المتعنِّتة عبر تكتيتات عفوية على أساس استرتيجيات طارئة وآنيّة، فإنّ النجاح في المراحل التاليّة يتطلّب بالتأكيد استرتيجيات ثابتة وتكتيكات مدروسة تمكّن الثورة من مواجهة الردّ القاسي الذي لاحَت بوادره. ولذلك، فإنّ إطلاق فعل الإيمان أعلاه، ورفع الشعارات، لم يعد كافياً، بل المفروض ترجمة ذلك على الأرض عبر خطوات ضرورية مدروسة ومتينة، انطلاقاً من واقع ليس مجهولاً بوجوهه المتعدّدة.

أوّلاً، يجب أن يقرّ هؤلاء الشباب بأنّهم لا يشكّلون ولا يمثّلون وحدهم مجمل شبيبة لبنان (والأرجح أنهم مقرّون به)، فلِلسّلطة الرسميّة وسلطات الأمر الواقع شبيبتها التي لا تتخلّى عنها بسهولة، وأعتقد أن هذا هو جوهر التحدّي المرفوع في الإعلان، وليس وارداً عند هذه الفئة قبول التحدّي لارتباطها بزعاماتها وقياداتها ارتباطاً اجتماعياً عضوياً وغريزيّاً (الانتماءات العائلية والعشائريّة)، أو ارتباطاً عقائديّاً حماسياً ومترسِّخاً، تنشَّأت عليه وثبتَتْ فيه (الالتزامات الحزبيّة)، أو ارتباطاً دينيّاً مذهبيّاً (وهو الأقوى والأشدّ تمنّعاً عن التغيير)، خصوصاً عندما تعتبر هذه الفئة أنّها ضَحّت من أجل هذه الانتماءات. إذاً، لا يمكن المراهنة على شمول مفاهيم الثورة وقناعاتها كلّ الفئات الشبابيّة والاجتماعية من أجل تحقيق نجاحها. وهذا ما يفترض، ويفرض بالتالي، قيام التعدّدية ليس ضمن الفريق الواحد بل على مستوى الوطن، على أمل أن تتحوّل هذه التعدّدية إيجابية بمعنى أن تصبح تفاعليّة مثمرة، عبر التنافس الشريف والسليم والسلميّ.

يعرف هؤلاء الشباب ثانياً أنّهم لا يشكّلون هم أنفسهم فيما بينهم وحدة متراصّة وممسوحة لفكر واحد أو عقيدة جامعة. ولذلك يعترف بعضهم ببعض طبعاً، ويقيمون الحوارات والنقاشات لاستجلاء أفضل الأفكار وابتكار أفضل الحلول. هذا ما يجري ضمن أطياف الثوّار، لكن ما يجب أن يجري أيضاً ضمن المجموعة الواحدة. وهنا أيضاً أهمّية التعددّية والاستعداد لقبول الآخر والتعاون معه من دون رفضه، والتخلّي عنه وعن المسار الثوري العام عند اختلاف الآراء. وإذا ما ترسَّخت هذه القناعة سهلت الأمور وتيسَّرت سبل الأعمال المُشتَركة التي تكسب الثورة قوة وتؤمّن لها سبل النجاح.

كلّ ذلك، وهذا هو الأهمّ، يفترض وجود قيادات تمثيليّة تدير وتنظّم وتنسِّق ضمن الفريق الواحد ومع سائر الفرقاء. يصرّ شباب الثورة على القول إن لا قيادات في هذه الثورة، وعلى أنّهم لا يريدون تسمية قيادات. كان هذا فعلاً عنصر قوّة في المراحل الأولى من الثورة العفويّة. فالنشاطات والحركات العفوية وغير المنظّمة، أو غير الخاضعة لقيادة معلَنة ومحدّدة ناطقة باسمها، أربكَت أهل السلطة التي لم تعد تعرف أين تردّ ولا كيف ولا على مَنْ. لكن في النهاية لا بدّ لكل نشاط أو تحرّك أو ثورة أن يُفرز قياداته، حتى وإن لم يُعلَن عنها ولم تُنتَخب ولم تُنصَّب. فبعد أشهر من الثورة لم يعد خافياً على أحد من هم الأشخاص القياديّون المنظّرون والمؤثّرون والفاعلون في مسار الثورة، وهم ينطقون باسمها وإن من دون صفة تمثيليّة، ويعترف لهم الثوار، كلّ من زاويته، بهذا الدور. وهناك قيادات صفّ أوّل وقيادات صفّ ثانٍ، وقيادات على المنابر وأخرى على الأرض. وليس في ذلك انتقاص من قيمة الثورة ووهجها، بل ربّما هذه الشخصيّات (المُفتَرضة) هي التي أعطت الثورة وَهْجَها. وهؤلاء هم المستهدفون حالياً بشكلٍ أو بآخر بمحاولات السلطة قمعهم أو ترهيبهم. وهم هؤلاء القياديّون الذين يشدّدون على عدم وجود قيادة، ما يعني أنّهم يؤمنون بعدم حصرية القيادة بشخص واحد أحد كما في سائر الأحزاب والتشكّلات اللبنانية. وهذا دليل عافية ويُبشِّر مستقبلاً بالاحتكام إلى الانتخاب الديموقراطي في تداول المسؤولية والسلطات.

إن كان الأمر كذلك وَجب بعد الآن أن يبادر الثوّار، بمختلف أطيافهم، إلى تشكيل مجموعاتهم أو تيّاراتهم أو أحزابهم. وهذا هو منطق الأمور إذا ما عدنا إلى ما طَرحه الإعلان أعلاه. فإذا أنكَر أصحابه الانتماء إلى أي حزب أو تيار أو سياسات سابقة، فهذا يعني التخلّي عن نهج معيَّن ومحدَّد، مكروه ومُستهجَن بسبب فشله. إلّا أنّ إعلان الإيمان بالوطن والانتماء إليه فقط لا يكفي. فكما يجري تصحيح الإيمان وإعادة صياغته، كذلك يجب تصويب النهج وضَبطه، وذلك عبر تشكّلات جديدة مُستحدَثة. ولا بأس أن تَتعدّد هذه التَشكُّلات، على أن يعمد كل تشكّل إلى تثبيت سلَّم القِيم الرائعة المطروحة في صفوف الثوار ومن ثَمَّ، وهذا هو المطلوب، إلى تطبيق الديموقراطية وممارستها عملياً، فيُفرض في الأنظمة الداخليّة نوع من تداول السلطة، ولا تكرَّس الرئاسة والقيادة لشخص أو لعائلة أو لقيادات تاريخيّة…

إذَّاك تنتقل التشكّلات إلى التعاون والتعامل فيما بينها على هذا الأساس عبر ممثّلين منتَدبين من كلّ فريق. فيُصار إلى تحديد الأهداف ووضع سلَّم الأولويّات ومناقشة الخطط والوسائل واستنباط الحلول وسبل تطبيقها، على أن يجري ذلك بالحوار والنقاش الواعي والواقعي ضمن إطار ديموقراطي أيضاً تخضع فيه الأقلّية لرأي الأكثرية، ولا بأس إن كانت هناك معارضة شرط أن تستمرّ هذه المعارضة في التعاون، أي لا تمتنع هذه المعارضة عن الاستمرار في التعامل والتعاون إذا لم تستطع تسويق رأيها، بل تشارك فإمّا تتحقّق الأهداف وتُدرِك أنّ خطة الأكثرية هي الفُضلى، وإمّا تفشل المحاولات، فيجري حوار جديد يمكنها من خلاله أن تطرح خطتها مجدّداً وتستلم زمام الأمور لتجرّب حظّها في إيصال الحراك إلى الهدف المنشود. بذلك تتبلور البنية الصحيحة والسليمة الطامحة إلى قيادة الوطن إلى برّ الأمان، وتتشكّل «النُخَب» الجديرة بتنكّب المسؤوليات وإدارة سياسة الوطن مستقبلاً. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى وضع النموذج المثاليّ الذي يطمح شباب الحراك إلى طرحه، لا بل فرضه، في الممارسة السياسيّة.

ومن المعلوم، من ناحية أخرى، أنّ في صفوف الحراك شباباً يعملون عبر أحزاب قائمة وموجودة، أي أنّ لهم عقيدتهم وأساليب عملهم. لهؤلاء الحقّ في المشاركة، ولا ضَيم في ذلك على أن يُصار إلى التفاهم معهم وحملهم على الاقتناع والالتزام بخطّة العمل المذكورة أعلاه. إن وافقوا فأهلاً بهم ولا شكّ في أنهم يرفدون الثورة بفكرٍ وحماس ومصداقيّة، ما يعزّز موقفها، ويشدّ ازرها ويقوّي حركتها. وإن رفضوا وجدوا أنفسهم شيئاً فشيئاً معزولين ضمن المدّ الثوري الجديد.

وفي الخلاصة أنه لا يمكن لشباب الحراك الاستمرار في خوض معركتهم من دون خطط واضحة ومشتركة، ومن دون قيادات واعية ومسؤولة ومنتَدبة تسهر على التوجيه والتطبيق. فنحن في مواجهة سلطة منظّمة، تديرها ميليشيات، أو ورَثة ميليشيات، منظّمة، تسخّر لها كل قوى السلطة الأمنية والقضائية، وبالتأكيد هي وضعت خطّة المواجهة وبدأت تنفيذها بُغية الحفاظ على مصالحها. وهي لن تتورَّع عن التحوّل إلى العنف بمختلف أشكاله، وصولاً إلى التسبّب بحرب أهلية بغية القضاء على حركة ثوريّة قويّة. أما إذا ظلّت قوى هذه الثورة، في مثاليّتها، مُشتَّتة وعفوية وغير منظمة، فهي تقدّم نفسها لقمة سائغة لعَسف السلطة وميليشياتها.

هذا ما يوحي به فعل الإيمان أعلاه، لكنّ الخطر هو أن يتصلّب شبيبة الثورة في موقفهم المثاليّ، فيصبحون أسرى هذا الموقف على غرار سائر المتشبّثين من أسرى الإيديولجيات والأفكار الجامدة. الخطوة التالية، على صعوبتها، هي الأهمّ، وتتمثّل في الانتقال من إعلان فعل الرفض والإيمان، إلى ترجمة الإيمان بالفعل… أي بتجسيد هذا الإيمان في طقوس وممارسات عمليّة واعية وهادفة ومنظّمة.