IMLebanon

اليوم كورونا.. ماذا عن الـيوم التالي؟

كتب حسن خليل في صحيفة  “الدمهورية”:

أين الآلة العسكرية وقوّة العملات؟ أين التكنولوجيا العظيمة؟ هذا هو الفيروس الذي لا تراه العين المجردة، يجرّد كل القوى العالمية من شرقها الى غربها، ومن جنوبها الى شمالها. حان الوقت لكل الذين تركبهم العقدة الفوقية أن يعيدوا النظر، بغضّ النظر الى أي عرق فوقي انتموا، في النظام النيوليبرالي الذي سيطر على الكرة الارضية منذ 1948 حتى اليوم.

هذا هو الوقت لكل الذين هم في موقع مسؤولية فردية او شركات او حكومات أن يعيدوا النظر في هدف تحقيق النمو بأيّ سعر كان. لقد أظهرت ازمة كورونا انّ نظرية النمو قاتلة ما لم تُلجَم فيها أنانية النفس البشرية في أي موقع كانت. هذا الهدف هو من دمّر البيئة التي تستولد الفيروسات، واستنفذ الموارد الطبيعية من نفط ومعادن وسلع ضمن المنافسة للدول، حتى أصبح كالادمان لا يمكن التوقّف عن تعاطيه. كذلك يندرج الاستهلاك الشخصي. لقد كان هدف أجيال ما قبل سبعينات القرن الماضي تأمين الغذاء على طاولة الطعام ودفع أقساط المدارس والجامعات. لم يكن هدف الآباء والاجداد تجميع الثروة ولا تملك الاصول. ظاهرة التجميع والتملّك بدأت مع فورة النفط تبعتها فورة الاقراض غير المسؤول، والاسواق المالية وانهيار الاتحاد السوفياتي وظهور الاوليغارشات الروسية، ثم فقاعة أسهم التكنولوجيا، والنمو السريع للإقتصاد في الدول الناشئة، على رأسها الصين الشعبية.

كان أول انذار للنظام المالي العالمي عند انهيار 1987 في البورصات العالمية بدرجة لم يشهدها منذ الانهيار الكبير سنة 1929 في نيويورك، الذي كان حينها يعتبر محلياً، ولم تكن العولمة معروفة.

أما الانهيار الثاني الكبير فحصل سنة 2008 عندما انهارت الاسواق المالية بطريقة غير مسبوقة، وبات الناس حينها يتساءلون حتى عن سلامة أموالهم النقدية في المصارف. تدخلت الحكومات كالمقرض الرئيسي للملاذ الآمن lender of loast resort، وأنقذت النظام المالي العالمي من كارثة كادت ان تؤدي الى اضطرابات غير مسبوقة، حتى بات الحديث عن الحرب العالمية الثالثة كجزء من تبادل فكري اجتماعي. في فترة ما بين الزلزالين الماليين من سنة 1987 حتّى 2008، كانت هناك زلازل صغيرة، أيضاً لم يُعرها العالم الاهتمام الكافي، منها اليابان 1989، والمكسيك 1994، والسويد 1995، وجنوب شرق آسيا 1997، وروسيا 1998، والبرازيل 1999، والارجنتين 2000 وفقاعة اسهم التكنولوجيا 2001. معظم القاطنين على الكرة الارضية تعاملوا مع كل تلك الازمات على انها عابرة، وان الاسواق هي تصحّح نفسها، مع تدخل الانظمة والبنوك المركزية إذا ما احتاج الامر. كل الانهيارات المالية منذ 1987 حتى 2008 لم تقنع لا المسؤولين الحكوميين في النظام العالمي ولا المصرفيين انّ سرطان النظام الرأسمالي كان وما زال انفلات المديونية من خلال عدم ضبط أنظمة الاستدانة Excessive Leverage. أي انّ الافراد والشركات والحكومات قادرة من خلال الاسواق المالية العالمية على الاقتراض من دون ضوابط، ممّا سهّل للأفراد الاقتراض العقاري مثلاً، من دون ضمانات ومساهمة رأسمالية، والشركات وصناديق التحوّط بالاقتراض أضعاف مضخّمة حتى وصلت الى 52 ضعف للرأسمال عند انهيار صندوق LTCM وكان يدير 126 مليار دولار في سنة 1998، و33 ضعف عند انهيار «ليمان براذرز» سنة 2008، وليتبيّن انّ اكثر المصارف والصناديق كانت في نفس الوضع ومعرّضة للانهيار لولا تدخّل البنوك المركزية.

بعد انهيار سنة 2008، اعتقد العالم انّ الحكومات والبنوك المركزية أصبحت اكثر مسؤولية، ووضعت قيوداً انضباطية للاقتراض، وجعلت المصارف تلتزم بمعايير لقياس الضغوط ونسب السيولة السنوية، ولا يمكن الخروج عنها تحت طائلة العقوبات المالية. لكن اتّضح اليوم، ومن خلال ازمة فيروس كورونا انّ النظام المالي العالمي القائم على اقتصاد السوق، لم يتعلم اية دروس من كل الكوارث المالية الماضية وانّ نسبة الاقتراض على كل المستويات هي أعلى مما كانت عليه سنة 2008. كل الدول تقريباً، مع بعض الاستثناءات، خرجت سيطرتها على ديونها، حتى سقطت اتفاقية «ماستريخت» التي وضعها الاتحاد الاوروبي كمقياس للاستدانة محددة نسبة العجز السنوي للموازنة للدول الاعضاء الّا يتخطى 3 % من الناتج، والّا تكون المديونية أعلى من 60 % من الناتج. كل الدول ما عدا بعض الدول الاسكندنافية ولوكسمبورغ عليها مديونية تتخطى 100 %، حتى قبل وقوع ازمة كورونا، ومن دون احتساب المطلوبات على الرعاية والضمان الاجتماعي. الولايات المتحدة لوحدها زادت مديونيتها من 8 تريليونات دولار سنة 2008 الى ما يقارب 22 تريليون اليوم، وقبل الازمة الاخيرة التي يقال انها ستضخ 1,5 تريليون اذا احتاج الامر. وقد اقترب الدين العالمي من عتبة 300 تريليون دولار اي ما يوازي 325 % من الناتج العالمي، وذلك بدون احتساب المترتبات على الدول للتأمينات الاجتماعية التي قد ترفع النسبة الى اكثر من 700 %.

 

لن يكون العالم بعد اليوم كما قبله، وواهم من يعتقد انّ الازمة المالية الحالية ستكون كغيرها، وانّ الاسواق تعود لتضبط نفسها. هكذا عقليات هي من جَلبت الكوارث او ستجلب نهاية العالم يوماً ما.

إنتشار فيروس كورونا جعل العالم بأسره يستفيق من نشوة المادية وتجميع الثروة، وبات الكلّ يتساءل كيف لهكذا تهديد ان يكون واقعاً؟ شاشات التلفزيونات تمتلئ بمؤتمرات صحافية لأقوى الرئاسات العالمية تائهين، مصدومين بعجزهم عن الخيارات المتاحة لمواجهة عدوّ لا تستطيع كل آلاتهم العسكرية مواجهته. هناك خطوات يجب اتّخاذها فوراً اليوم، ولا أحد يعلم لماذا تتباطأ الحكومات المسؤولة في اتخاذها، وأهمها:

1 – إغلاق كل التداولات في الاسواق المالية من اسهم وسندات ومشتقات، وفرض عقوبات على كل عمليات المضاربة، خاصة من يضاربون بما لا يملكون SHORT SELLING.

2 – إتخاذ كافة الاجراءات اللازمة للسيطرة المؤقتة على كل معامل الادوية العالمية وتأمين الادوية والحاجات الطبية لمَن يحتاجها على حساب خزينة الدول.

3 – وضع اليد على كل مصادر وتوزيع supply chain وتأمين الحاجات الاستهلاكية الضرورية لكل المواطنين لإيقاف الهلع في التبضّع، واعتبار الدولة مسؤولة عن تأمين الاحتياجات الضرورية لكل المواطنين.

4 – تأمين مجاناً ومؤقتاً لكل المواطنين الخدمات الاساسية المطلوبة لدعم مقومات الصمود في المنازل من كهرباء ومياه ووقود واتصالات.

هذه الاجراءات مطلوبة من كل الدول القادرة على ذلك. امّا الدول التي تحتاج الى المساعدة، فعلى صندوق النقد الدولي توجيه كل قدراته لمعالجة الكارثة الحالية كأولوية على دعم موازنات الدول.

5 – إعتبار كل مواطن خفير يعمل لدى الدولة في مسؤولية للتكافل الاجتماعي ودعوة وسائل الاعلام للمساهمة فوراً بذلك.

ماذا عن اليوم التالي؟

لا أحد يعلم حتى الآن الاخطار الفعلية لانتشار فيروس كورونا واذا ما يمكن السيطرة عليه ام لا؟ ولا احد يعلم عن امكانية ظهور فيروسات جديدة ام لا؟ لكن هذا هو الوقت الذي يجب التخطيط فيه على أن يعود الانسان والانسانية سَيّدا هذه الكرة الارضية، وانّ الماديات، حتى في أبشع تجلّياتها، كما في الاسواق المالية، ستؤدي كما ماضياً، الى إمكانية التدمير، ما لم تقترن بالحد الأدنى من الانسانية والضمير في إدارة الحكومات والشركات.

 

من أكثر الظواهر التي ستتأثر نتيجة هذه الأزمة هي ظاهرة ضمور العولمة. على الأغلب انّ العالم سينقبض على بعضه، وتعود التكتلات الاقليمية كبديل عن العولمة، والتي هي أيضاً ستتنافس فيما بينها ضمن غريزة البقاء وفلسفة «أنا أولاً». هذه الفلسفة لطالما كانت موجودة في الغريزة الانسانية وإدارة الدول على حدّ سواء، ولكنها ستتجلى في أبشع مظاهرها في السنوات القادمة.

يجب ضبط المديونية العالمية للحكومات والشركات والافراد من خلال معاهدة دولية تضع الضوابط اللازمة لمنع الانفلات الاقتراضي excessive leverage. لا يمكن بعد الآن ادارة النظام المالي العالمي كما حصل خلال الخمسين سنة الماضية. المشكلة الرئيسية لولادة هكذا معاهدة ستواجه بمعارضة أركان النظام النيوليبرالي.

– في حال تمّ ضبط المديونية العالمية للحكومات والشركات، قد لا يكون هناك أي مفر من اتفاق دولي لإعادة هيكلة الدين العام. فاليوم تعيش الاسواق قلق 19 تريليون دولار ديون على الشركات، ناهيك عمّا ذكر من ديون على الحكومات ومترتبات تأمينات اجتماعية.

في حال نجح تطبيق ضبط الانفلات الاقتراضي، سيكون له مضاعفات على نمط العمل المصرفي ونسبة النمو العالمي ونسَب البطالة والثروة والفقر عالمياً.

– لقد عاش العالم خلال الـ50 سنة الماضية، وكما ذكر في المقدمة، نمطاً غير طبيعي وغير مسبوق في التاريخ الانساني. فمبدأ خلق وتراكم الثروات وتسريع النمو، أدى الى نمط معيشي واقتصادي مضرّ جداً بصحة الاقتصاد العالمي ووتيرته. وبالتالي، فإنّ تصحيح هذا النمط السلبي لن يتم بدون دفع أثمان عن الممارسات التي كان يُعتقد انها ايجابية، ليتبيّن الآن انها أضرّت ببيئة الكرة الارضية وادارة الاقتصد العالمي.

لذلك ستنعكس إيجابيات المرحلة السابقة التي شهدت ترقي مئات الملايين الى الطبقة المتوسطة من الفئة الفقيرة، وازدياد فرص العمل، وازدياد معدل طول العمر، الى سلبيات، نتيجة تباطؤ نسب النمو الاقتصادي والتخلّص من نموّ إدمان لصالح هدف البقاء على الحياة والمساهمة في الحدود الدنيا للعدالة الاجتماعية وتقليص نسَب تراكم الثروات.

واذا ما صَحّت التوقعات المذكورة أعلاه، فهذا يعني حتماً ولادة نظام مصرفي جديد أقرب الى النظام المصرفي التقليدي الذي لم يكن مرتبطاً بطبع العملة بعد فكّ الارتباط بالذهب في معاهدة Bretton woods. المطلوب من النظام المصرفي الجديد العودة الى تمويل القطاعات الانتاجية الفعلية بدل الاهتمام بتمويل عمليات المضاربة، او التملّك للأصول والشركات بأضعاف مضاعفة على الرأسمال من خلال الاقتراض.

وإذا أنتج النظام العالمي المالي الجديد نظاماً مصرفياً مسؤولاً يبتعد عن الاقراض غير المسؤول، فإنّ هذا الأمر سيؤدي الى انخفاض عالمي في اسعار الاصول على اختلاف انواعها asset deflation، بما فيها العقارات. وقد تجلّى ذلك خلال انهيار الاسعار في الاسواق المالية حيث لم ينج لا الذهب ولا كافة المعادن من انهيارات مماثلة.

– نتيجة انخفاض اسعار الاصول سيتم تلقائيّاً إعادة النظر من قبل المستثمرين واصحاب الرساميل بمعنى القيمة «value»، حيث انّ الانسان نفسه من يضع «القيمة» لأصل ما، وليس بسبب ندرته فقط. فها هو الذهب والالماس والمعادن، ومع ندرة استخراجها قياساً بالطلب، لا ترتفع أكثر من حدّ ما، لأنّ الانسان المستثمر قرر ان يضع القيمة في لوحة فنية لا يفهمها الّا من وضع هذه القيمة لها، وقبِل السوق بذلك. هذه المفاهيم حتماً ستتغير مع تغيّر رغبة الاقتناء والتملّك.

 

– كتب بروفسور في جامعة MIT سنة 1991 كتاباً بعنوان «ماذا بعد الرأسمالية»؟ وتساءل عن صحة ما كتبه فوكوياما حول نهاية التاريخ، وانّ النظام الرأسمالي النيوليبرالي هو النظام الاخير الذي يجب ان يتبعه العالم أجمع، ولن يكون أي نظام جديد ضمن مفهوم التطور الطبيعي للأنظمة. هذا المفهوم والنظرية برهنا فشلهما. يجب ان يتغيّر ويولد نظام تسوده الحدود الدنيا للعدالة الاجتماعية ضمن المفهوم التقليدي للرأسمالية، وعدم كبح الطموح البشري. يجب العمل على ولادة نظام الرأسمالية الاشتراكية capitalist socialism، وذلك من خلال تشريع نظام ضريبي عالمي يلغي الهوة في الثروة الفردية.

– في حال ضبط المديونية العالمية للحكومات والشركات، قد لا يكون هناك مفر من اتفاق دولي لإعادة هيكلة الدين العام. فاليوم تعيش الاسواق قلق 19 تريليون دولار كديون على الشركات، ناهيك عمّا ذكر من ديون على الحكومات ومترتبات تأمين اجتماعية.

الخاتمة والعبرة في ظاهرة «الطمع»

الطمع هو أساس البلاء، وهو يقود العالم كما قادَه خلال التاريخ الانساني المعروف. لكنّ الكرة الارضية لم تكن يوماً كقرية صغيرة يعرف الجميع بعضهم البعض كما هي اليوم، وترتبط مصالح اول بيت على مدخل القرية كما آخر بيت فيها. لا يمكن بعد اليوم إدارة العالم باللاقيم واللاأخلاق. لا يمكن بعد اليوم التصرف بمشيئة هذا الجنس او ذاك، تقوده الفوقية التمييزية. فها هو كورونا العملاق لا يعرف حدوداً. عشيرته من بكين الى نيويورك، ومن اوستراليا الى الشرق الاوسط، مروراً ووصولاً إلى أوروبا. هل فَرّق بين العرق الاصفر والابيض والهندي والاسمر؟ هل فَرّق بين المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والمُلحد؟ إنّ كلّاً من المذكورين يعتقد جنسه او انتماؤه أرفع درجات عن الآخرين، او انّ دينه هو الوكيل الحصري للخالق على الارض. قال لهم كورونا ومن دون ان يتكلم، لكن بصوت سمعته كل زوايا العالم، إنكم كلكم متساوون في عدم تقدير النعم التي منحت لكم، وانكم لا تستأهلون هذا الكوكب الجميل الازرق الذي تعيشون عليه. تمّ وَهبكم البحار والأنهر والجبال والصحارى والمزارع. لقد أعطاكم الخالق نموذجاً من جنته، فأفسدتم فيه. وها هو كورونا يقول لكم أوقفوا الطمع، ولا تتّبعوا مُنظّري الاسواق انّ المال هو فقط القوة. الاديان حذّرتكم انه الفتنة، والتاريخ كذلك.

عندما يحجّ الحجاج في كل الاديان يكونون متساوين في صلاتهم وخشوعهم، وكذلك عامَلهم فيروس كورونا. يجب العودة الى الذات البشرية، ولتتعلق بأي ذات روحية تريد، ولكن بمفهوم الانسانية والمحافظة على هذا الكوكب الجميل. وليخرس من سيخرج علينا لينظّر مرة اخرى انّ هذا الكلام طوباوي وغير واقعي. ماديته ليست الواقع، ولا نرجسيته ولا فوقيته. فالبشر كلهم متساوون في السعادة والخوف والبحث عن الذات.

كلا، وألف كلا لِمَن نظّر انّ الدين أفيون الشعوب. المتدينون هم السيئون والمسيئون من كافة المذاهب والمشارب، فالاديان السماوية وغيرها توقعت ما نعانيه اليوم. ولا اتّساع للآيات القرآنية ووصايا المسيح والعهد القديم وتعاليم بوذا وآلهة السيخ والهندوس. وكلها تدعو للتكافل الاجتماعي وللمحبة ونقض الانانية. لا يمكن بعد اليوم ادارة العالم من دون هذه الأسس.

ليس الخطر من انهيار الاسواق المالية، إنما من التهديد الوجودي للانسان على هذه الارض. هل يصحو أم سيبقى معتمداً الانتحار التلقائي؟ هذا هو السؤال من الآن فصاعداً.