IMLebanon

ما بعد كورونا ليس كما قبله..

كتب روبير نعوس في صحيفة “الجمهورية”:

هي عبارة تحمل في طيّاتها أبعادًا ومعانٍ عادةً ما تُستخدَم للغرض السياسي والاقتصادي لتدلّ على مرحلة مفصليّة أو تاريخ محدّد، تقارن بين ما سبق هذه الحقبة وما سيليها.

غير أنّني لستُ في وارد الغوص في السياسة، أو حتّى الاقتصاد، بل في علم الاجتماع والسلوك البشري وما بينهما، كما العلاقة والديناميكية القائمة والمتوقَّعة بين الدولة ومواطنيها.

ممّا لا شكّ فيه أنّ فيروس كورونا غيّر عادات وسلوكيّات المجتمعات كافّة، بغضّ النظر عن التفاوت الحاصل في عدد الإصابات بين دولٍ وأخرى، ومن حكم المؤكّد أنّ هذه التغيّرات المجتمعيّة ستستمرّ حتى بعد انقضاء الأزمة وإيجاد اللقاح أو العلاج اللازم.

بالتالي، ماذا يمكن أن نتوقّع لمرحلة ما بعد فيروس كورونا:

خصوصيّتك ليست ملكك بالكامل، وديمقراطيّة أقلّ

أظهرت التجارب المختلفة والجهود المتّبَعة في الدول التي لا تتّخذ الديموقراطية منهاجًا لحكمها، نجاعةً أكبر في احتواء الوباء، والأمثلة كثيرة هنا، وفي طليعتها جمهوريّة الصين الشعبيّة التي نجحت نسبياً في احتواء الوباء، حتّى لا نقول القضاء عليه بالكامل، على عكس دولٍ أوروبية ما زالت تعاني في مجال ضبط انتشار الفيروس.

من هنا، قد يذهب البعض إلى حدّ القول أنّ الدول والأنظمة التي تتيح مجالًا أقلّ للحرية لشعوبها وبالتالي قدرةً أعلى على “الضبط المجتمعي” قد تكون في موقع أفضل للسيطرة على جائحة بحجم COVID-19، بعكس الأنظمة المثقلة إلى حدٍّ ما ببيروقراطيّة المؤسسات التشريعية والقوانين التي تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية الحريات الفردية والمجتمعيّة.

علاوةً على ذلك، فقد لجأت الصين والدول التي حذت حذوها إلى حدّ استخدام الوسائل التكنولوجية كما مواقع التواصل الإجتماعي للتجسس على مواطنيها، والتأكد من التزامهم بتعليمات الحكومة، وصولًا إلى معرفة أماكن وجودهم وحركة تنقّلهم، وإذا ما كانوا تواصلوا مع أفراداً معيّنين ومصابين محتملين.

من المرجّح أن تستمرّ هكذا إجراءات بل وتتعزّز بعد انقضاء الوباء، وقد تلجأ بعض الحكومات إلى سنّ قوانين وإدخال تعديلات إلى أنظمة حكمها الديموقراطيّة بهدف تعزيز قدراتها على مواجهة أزمات مماثلة في المستقبل. قد تتحول دول أخرى إلى أنظمة أكثر سيطرة وتحكماً في هامش الحريات الفردية في مجتمعاتها.

بمعنى آخر، يلعب التطوّر التكنولوجي في هذه الحالة دوراً مزدوجاً، وقد يكون سيفاً ذي حدّين.

التكنولوجيا في خدمة الإنسان، والتواصل مع الآلة بدل التواصل البشري

يتفّق العلماء على أنّ فيروس كورونا المستجدّ ينتقل عبر الاحتكاك والتواصل البشري، أي أنّ الطريق الأجدى للحدّ من انتشاره يكون عبر عدم الاختلاط مع الآخرين، بل والالتزام بالحجر المنزلي الصارم.

وقد أدّى اتباع تعليمات الوقاية هذه إلى زيادة مضطردة في عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت منذ انتشار الفيروس، وهو ما أدى إلى ازدهار خدمات توصيل الطعام ومنصات التسوق الإلكتروني وتطبيقات العمل عن بعد في كثير من الدول.

وتبيّن للشركات كما الأفراد أنّ عدداً لا بأس به من النشاطات المتعلّقة بالعمل التي كانت تتمّ وجهاً لوجه، في المكتب، أو عبر السفر حتّى، يمكن أن يُستعاض عنها، وبالفاعليّة ذاتها، عبر أدوات التواصل التكنولوجي والإجتماعات الافتراضية، أو حتى بمكالمة هاتفيّة أو بريد إلكتروني. هكذا بدائل قد توفّر جهداً ووقتاً وتكون أقل تكلفة ماديّة أحياناً.

بالإضافة إلى ذلك، تلجأ الغالبية العظمى من المحجورين إلى التواصل مع أصدقائهم وعائلاتهم وأحبّائهم عبر العالم الافتراضي، كما تعبئة وقتهم وإمضاء ساعات الحجر الطويلة بتصفّح المحتوى عبر الإنترنت ومشاهدة الأفلام واللجوء إلى ألعاب الفيديو، وتلبية حاجاتهم من التبضّع والطعام عبر الوسائل الإلكترونية البديلة والـ e-commerce، ما سيؤدي إلى ازدهار هذه القطاعات على حساب أخرى مثل المطاعم والمقاهي والمحال التجارية والمتاجر على أنواعها.

هذه الاستعاضة عن الخروج من المنزل قد تؤدّي إلى تغيّر مزمن في السلوك البشري، كما إعادة تعريف للحاجات ووسائل الترفيه وكيفيّة تمضية الوقت والتفاعل مع الآخرين.

الحدّ من الاستقطاب والاختلاف، انحسار العولمة، وزيادة النزعة الانعزاليّة

تسلّط الأزمة القائمة الضوء على ضرورة وضع بعض الخلافات الداخلية (بين الأحزاب والقوى السياسية والفئات الاجتماعية) أو حتى الخارجية (بين الدول) جانباً للتفرّغ لمواجهة عدوّ خارجي لا يفرّق بين الدول والأفراد، كما يتخطّى أي طابع خلافي قد يبدو “سخيفاً” مقارنةً بما تواجهه البشرية من أزمة ترقى إلى مقام “الخطر الوجودي”، كما حصل في الولايات المتحدة على سبيل المثال حيث توحّد الحزبان الجمهوري والديموقراطي في مواجهة الوباء، وفي أفغانستان حيث دعت الحكومة حركة طالبان إلى وقف القتال والتركيز على مواجهة كورونا سويّةً، لمصلحة الشعب والمجتمع الأفغاني.

باختصار، إعادة ترتيب سلّم الأولويات وصياغة جديدة للأجندات الداخلية والدولية قد تفرض نفسها كمسار ضروري لمواجهة الكوارث والأزمات العالمية، وذلك بعد الانتهاء من جائحة كورونا.

النقطة الثانية في هذه الإطار تتعلّق بالعلاقة بين انتشار وباء كورونا (كما الأوبئة السابقة) وهيمنة مشاعر قوية ودائمة من الشبهة والخوف التي تؤدي بدورها إلى تطوير سلوكيات ومعتقدات مختلفة كلياً عن المألوف وأحياناً متطرفة، تجعل البشر عموما أكثر عدوانية وعزلة، بالتوازي مع اهتزاز الثقة بالعالم الخارجي وكلّ ما هو “غريب” أو جديد.

بعدما يوضع حدّ للوباء، ستنصرف كلّ دولة (وشعوبها) للاهتمام بمشاكلها الداخلية (السابقة وتلك المتعلّقة بتبعات الوباء) الاقتصادية والاجتماعية والمالية، وهو ما يحصل الآن بالفعل حيث مساعدات كلّ دولة للأخرى محدودة، هذا إذا كانت موجودة في الأساس، ومثال على ذلك الدول الأوروبية، وفي طليعتها إيطاليا، التي تواجه الجائحة بمفردها وبدون دعم جدّي من الاتحاد الأوروبي.

هذه بعض من المسائل والأشياء والتعديلات التى طرأت على عاداتنا اليومية، كما تغيّرت وتتغيّر المسارات التي تتبعها الدول والنظم الاجتماعية في نظرتها إلى الأمور والأولويات الاستراتيجيّة التي تحكم عالمنا اليوم وغداً. ومن هنا، يتعيّن انتظار مرحلة انحسار الوباء ليُبنى على الشيء مقتضاه.

لكن يبقى الأكيد أنّ مرحلة ما بعد كورونا ليست كما قبلها!