IMLebanon

هل سيرد “الحزب”؟ وأين وكيف؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

يراقب “حزب الله” جيداً التطورات الدراماتيكية الحاصلة مالياً و”قيصرياً” نسبة إلى قانون “قيصر”، ومن يراقب سلوك الحزب يدرك بأنه يصعب أن يبقى في موقع المتفرِّج على محاصرته وانهيار منظومته.

أكثر مقولة تنطبق على واقع “حزب الله” اليوم هي مقولة “إنتظرناهم من الشرق، فأتونا من الغرب”، حيث راح يتسلّح ويعدّ صواريخه ويعزّز ترساناته ويطوِّر جيشه ويستعرض قواته ويُراكم خبراته العسكرية بهدف التحوّل إلى قوة عسكرية لا تُهزم ولا تُقهر وتوحي بتوازن رعب مع إسرائيل، بما يحوّله إلى أمر واقع أبدي وسرمدي، فأتته الضربة من مكان آخر لم يكن يتوقعه ولا يجيد التعامل معه وغير قادر على مواجهته.

فلم يكن “حزب الله” يتوقّع أن ينهار لبنان مالياً ويهدد مفاصل الدولة الممسوكة من قبله، وهذا الانهيار طبعاً ليس مردّه لمؤامرة خارجية وأميركية تحديداً، إنما يعود إلى فشله في إدارة الدولة شأنه شأن حليفه العراقي، وسببه انّ منطق الدولة والثورة لا يلتقيان، والانهيار سيكون ثالثهما مهما طال الزمن أو قصر، لأنه لا يمكن لأيّ دولة أن تتحمّل كلفة ثورة تستنزفها من الداخل وتطوّقها من الخارج. هذا عدا عن انّ إلمامه حربي الطابع لا إصلاحي التوجّه، ويجيد لغة السلاح لا الأرقام، ويفقه في بناء جيش قتالي لا دولة دستور وقانون.

وقد دلّ الانهيار الحاصل بأنّ الحزب في غربة عن الواقع، ولم يتنبّه انّ الحرب في هذا العصر هي حرب اقتصادية بالدرجة الأولى بدليل ما يحصل مع مرجعيته طهران، فواصَل سياساته وكأنّ شيئاً لم يكن، فلم يكترث لطريقة إدارة الدولة، ولم يعدِّل في طريقة ممارسته، ولم يضغط على حلفائه وفي طليعتهم العهد ورمزه النائب جبران باسيل ليعيد النظر في أسلوبه، فأوصَل نفسه بنفسه إلى انهيار الدولة التي يتلطّى بها ويحتمي.

ولو استدرك وأحسَن الممارسة لكان في أسوأ الأحوال نجح في تأخير الانهيار لسنوات، ولكنه تغاضى عن فِعل أي شيء لأربعة أسباب أساسية: لأنّ عقله في مكان آخر ولا يُحسن التعامل مع الوضع المالي والاقتصادي، ولأنه ظَنّ او راهنَ انّ المجتمع الدولي لن يسمح بانهيار لبنان وسيحافظ على سياسته المتمسّكة بالاستقرار والتمييز بينه وبين الدولة، ولأنه ملزم بمبدأ المقايضة بين الفساد والسلاح استمراراً لدوره، ولأنّ الإصلاح يؤدي إلى تقليص دوره.

ومن الأخطاء التي ارتكبها استسهاله تشكيل حكومة من دون المكوّن السياسي الآخر، واضعاً نفسه في مواجهة مباشرة مع الناس على خلفية الانهيار الحاصل، وفي مواجهة مع المجتمع الدولي. وبالتالي، بدلاً من أن يتلطّى بقوى 14 آذار لتضييع “شِنكاش” الفشل وتحميل المسؤوليات، كشفَ رأسه بتمَوضع رأس حربة في مواجهة لا يمتلك مقوماتها ولا يُحسن إدارتها.

وكلّ رهانه كان انّ ما يَصحّ على الجيش السوري في لبنان لا ينسحب عليه، حيث انّ الضغط الدولي بإمكانه إخراج هذا الجيش، ولكنه لا يمكنه ان يُخرجه لأنه جزء من المعادلة الداخلية، فبَنى كل استراتيجيته على السيطرة على الدولة والتكامل معها مُسقطاً من حساباته احتمال سقوط الدولة أو إسقاطها لإرباكه وتحجيمه، لا سيما انه أحسن التعامل مع الواقع اللبناني، فأمسَك الدولة من فوق وترك اللعبة من تحت إلى حين انفجرت في حضنه وبين يديه.

وما لم يكن يتوقعه “حزب الله” او ينتظره في موازاة الوضع المالي ان تذهب واشنطن إلى حد إقرار قانون يفصل بين لبنان وسوريا، ما يعني محاصرته في عقر داره وقطع طريق إمداده من طهران، فضلاً عن انّ هذا القانون يضع رئيسها الذي يحكم على جزء منها في وضع صعب ومعقّد ويمهِّد لخلعه والتفاوض على رأسه في مرحلة أخطر عليه من مرحلة انطلاق الثورة والحرب، الأمر الذي يجعل الحزب بين مطرقة الوضع المالي المتأزِّم والمنهار، وبين سندان قانون “قيصر” الذي يؤدي إلى تطويقه إقليمياً ومحلياً.

ووَضع الحزب ليس أفضل حالاً من وَضع مرجعيته طهران المحاصرة أميركيّاً وتعد الأيام والأسابيع والأشهر بالرهان على إدارة أميركية جديدة تمدّه بمزيد من الوقت تلافياً لتَجرّع الكأس المر، وبالتالي لا هو بخير، ولا مكونات الممانعة في اليمن والعراق وسوريا بخير، ولا وضع قائدة هذا المحور بخير.

وفي كل هذا المشهد الآخذ بالتطور بسرعة فائقة نحو مزيد من محاصرة محور الممانعة عموماً و”حزب الله” خصوصاً، يصبح السؤال مشروعاً حول كيفية تعامل الحزب مع هذا التطور المزدوج المستجد: إنهيار من الداخل، وحصار من الخارج؟ فهل سيرد الحزب؟ وكيف، وأين؟ وهل يملك أدوات الرد؟ وألا يرى بأنه دخل في موت سريري بطيء وانه في حال لم يبادر يتّجه نحو الموت المحتّم؟

لا شك انّ “حزب الله” يقرأ جيداً هذه التطورات، وانّ فشله في منع الانهيار بسبب عدم استشرافه الوضع وقلة درايته ومعرفته بلغة الأرقام والمال والاقتصاد، لا ينسحب على طريقة تعامله مع نتائج الانهيار والحصار، فهل سيبقى مكبّل اليدين بانتظار الأعظم والأسوأ، أم سيبادر إلى خلط الأوراق؟ ولكن كيف سيفعل ذلك خصوصاً انّ محاولته قلب الطاولة كما فعل في حرب تموز 2006 قد تُفضي إلى قلب الطاولة على نفسه، لأن لا وضع لبنان ولا كل مكونات الممانعة اليوم يشبه ما كانت عليه في ذاك الوقت؟

فذهاب الحزب إلى الأمام هذه المرة قد يكون أخطر وأسوأ عليه من سياسة الانتظار والتعامل من موقع رد الفعل ورد الضربات وشراء الوقت، إذ من يقول مثلاً انّ تل أبيب لن تستغلّ وضعه المحشور داخلياً والمحاصر إقليمياً والمأزوم سياسياً لتَتذرّع بمواجهة هو مَن فَتَحها من أجل الانقضاض عليه مستفيدة أيضاً من دخول حليفتها الولايات المتحدة في الكوما الانتخابية؟

فهو من دون شك يُجري الحسابات المطلوبة لكل المخاطر والاحتمالات، ولكن مع الحزب لا يجب استبعاد أي احتمال بخاصة ان لا مؤشرات تدلّ على استعداده الانخراط في المشروع اللبناني تحت سقف الدستور والمؤسسات اللبنانية. ولذلك، يجب تَوقّع أي شيء، فقد يفضّل الانتحار على طريقة “عليّ وعلى أعدائي” من الموت البطيء، لعلّه يفتح ثغرة ولو صغيرة يستطيع من خلالها النفاذ من هذا الوضع المقفل أمامه نحو وضع أفضل، لا سيما انّ هذا الأسلوب هو السلاح الوحيد الذي يجيده ويمتلكه. وبالتالي، على القوى السياسية التهَيّؤ لشتى الاحتمالات، وأخذ الحيطة والحذر الشديد، والتزام الحجر الأمني والسياسي في المُقبل من الأيام والأسابيع.