IMLebanon

التهافت في الخطاب.. جهلاً أم تجاهلاً؟

كتب د.مصطفى علوش في “الجمهورية”:

«دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء» أبو نواس

قصة كتابي «التهافت» و»تهافت التهافت» معروفة في أوساط المطلعين على الجدل، عن بُعد في التاريخ والجغرافيا، الذي دار بين «إبي حامد الغزالي» و»ابن رشد الأندلسي»، حول دور الفلسفة في المعرفة، وبالأخصّ ما هو غير مرئي وملموس، أي في علم الماورائيات. لكننا لن نذهب لبحث البحثين في ما يلي، فمع الوقت ندرك أنّ الإثنين كانا على حق في بعض ما ذهبا إليه، حتى وإن اختلفا في الطرح والتركيز على بعض الأمور دون غيرها. لكن المهم في طرحنا هو كلمة «تهافت»، ومعناها يعني تساقط ووهن الأمر وعدم قدرته على الصمود في وجه الوجود والوقائع! فيُقال مثلاً، تهافت الثوب، أي بلي وأصابه اهتراء. أما في الحجج، فهو تعبير عن ضعف الحجة وابتعادها عن الصواب لعطب معرفي أو منطقي في صيغتها.

تعود بي الذاكرة إلى فيلم سينمائي أُنتج في آخر سبعينات القرن العشرين، وكان دور البطولة فيه لعبقري التمثيل «بيتر سلرز». عنوان الفيلم هو «الوجود هناك» أو (Being there)، ويروي قصة جنيناتي عاش كل حياته في قصر صغير في أواسط مدينة كبيرة، لم يخرج يوماً في حياته خارج الحديقة. وكان بارعاً في رعاية المزروعات، عالماً بالمواسم والبذور، وفي التربة الصالحة، وكان كل ما كان يعرفه عن العالم الخارجي هو من خلال جهاز تلفزيون كان يقلبه ليتعلّم منه. كان هذا إلى أن بلغ العقد السادس من عمره عندما مات صاحب القصر، وأخرج «صدفة الجنيناتي»، كما كان يسمّيه صاحب الدار، إلى العالم، وهو لا يعرف عن العالم الحقيقي بتشعباته أي شيء، سوى خبرته الزراعية. وهنا، تدخّلت الصدف مع «صدفة»، ووصل أيضاً بالصدفة إلى مواقع مؤثرة، حيث يستشيره حتى رئيس الجمهورية الأميركي بشؤون البلاد والعباد. كان «صدفة» يجيب بلغة الجنيناتي عن كل شيء في السياسة والتجارة والاجتماع. اللفتة الأخيرة في الفيلم كانت الإيحاء بأنّ «صدفة الجنيناتي» مشى أيضاً على سطح الماء.

قد يسأل سائل، ماذا تعني تلك المقدّمة الطويلة، كالعادة، وما دخل بيتر سلرز بالوضع في لبنان؟ لكن القضية هي هنا بالذات، فعندنا من لا ينكر الناس اختصاصهم في أمر ما، وقد يكونون أبدعوا يوماً، أو أياماً في التعبير عن خبراتهم في اختصاصهم! لكن الكارثة تحلّ عندما يصبح ذاك الاختصاصي الناجح يسير حتى على سطح الماء! من بعدها يتحوّل إلى عالم بكل شيء، في الطب والاقتصاد والاجتماع والقضاء والاتصالات والهندسة والكيمياء… وتصبح فتاويه تسير هي أيضاً على سطح الماء، أي حكماً مقدّسة، وما على الناس إلّا البحث عن سبل تطبيقها. هذا هو بالفعل التهافت الذي تحدث عنه الغزالي، لكون الفلاسفة الأقدمين افترضوا أنّ العقل البشري قادر على اكتشاف كل أسرار الكون، وأنّ الفلسفة ببحثها النظري قادرة على سبر غور ما هو محجوب عنها في المعرفة العملية. وهذا ما لاقاه به الفيلسوف مارتن هيدغر بعد ثماني مئة سنة، ليؤكّد أنّ ما من بشري قادر، بوجوده القصير في الوجود، على سلخ جلد المعرفة بكل أشكالها.

ليست المرة الأولى التي يخرج فيها أمين عام «حزب الله» عن عالم الاختصاص الذي نذر حياته له، وهو الخبرة في إدارة المعارك والاستخبارات والأعمال السرية، وبالطبع يمكن زيادة كيفية تأمين المال النظيف وغير النظيف لإدارة الأعمال الحربية، بغض النظر عن تأثيراتها الاجتماعية والبيئية. فالعسكري همّه الأساسي هو إنجاز المهمة الموكلة إليه، حتى ولو كان لديه هامش ما في التصرف بكيفية إدارة المسار للوصول إلى الهدف. وهذا بالفعل ما قاله نائبه نعيم قاسم في كتابه عن «حزب الله»، بأنّ من يرسم الفتاوى العامة ويضع الأهداف الاستراتيجية هو الولي الفقيه، أما قيادة الحزب فلها حرّية الاجتهاد.

لكن الأزمة عادة ما تدفع إلى الاستنباط في ما هو أبعد من الاختصاص، خاصة إن كان المسؤول يرتبط إسمه بالسير على وجه الماء، وبالتالي فمن المنطقي أن يكون عالماً، تقريباً، بكل شيء، وبالتالي، فعند حلول الأزمة يجب أن يكون لديه الجواب اليقين في حلها!

ماذا قال في أزمة شح عرض الدولار في السوق اللبنانية وارتفاع الطلب بشكل جنوني؟ قال الأمين العام، بأنّ السبب هو أنّ الولايات المتحدة الأميركية تمنع وصول الدولار إلى لبنان، يعني أنّ الدولار عادة يأتي بشحنات توزعها الولايات المتحدة على من يواليها، وتحجبها على من يعاديها. خبرة السيد هنا صحيحة في ما يعرفه هو بأنّ إيران تشحن الدولارات لمن يوالي الولي الفقيه وتحجبها، لا بل تسحبها من يد من لا يواليه. أما أميركا، التي أصبحت عملتها عالمية، فوجود عملتها الشرعي في بلد ما مرتبط بالاستثمارات والحركة الاقتصادية، وليس بصناديق خشبية فيها رزمات مغلفة بالنايلون تصل لجماعاتها. هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة لم تمارس النوع ذاته من الأمور، فحتى إيران استفادت من هكذا نوع من الأعمال في صفقة الكونترا المعروفة بإيران غيت.

يعني بالمختصر، إنّ شح العملة الصعبة سببه الرئيسي هو شح الاستثمارات، وضعف التحويلات، وسحب الدولارات بطريقة أو بأخرى إلى سورية، وبالتأكيد ضمور الاقتصاد الذي ازدادت وطأته مع الكورونا والتخبّط الرسمي في علاج الأمور. وهنا يدخل «حزب الله» كعامل أساسي في التسبّب بالأزمة، على الأقل بالجزء الأكبر منها. وبالطبع، فإنّ العالم بكل شيء يعلم هذا، لكنه يشتت أنظار من يؤمن بأنّه يسير على وجه الماء.

الجزء الثاني هو ما يخصّ الذهاب شرقاً، وهو أمر أيضاً قد يُبهر الناس، وقد يظن أنّ الاسقاط التنبوئي هو ما أوحى به في لحظة العطل الفكري في انتاج الحلول، فأتت نصيحة السيد لتنبيه الوعي وإدارته. لا بأس، فلنذهب إلى تلك الفرضية، ولنبدأ من تجارب بلدان أخرى أقوى وأكثر انتاجية من لبنان. مثل السيد الأعلى هو إيران الولي الفقيه، وهي توجهت شرقاً منذ عقود، وعلاقاتها التجارية والمالية وحتى العلمية مفتوحة على الشرق، بقدر ما هي مغلقة على الغرب. هل نجح هذا النموذج بإنقاذ التومان الإيراني من السقوط؟ هل فتحت هذه النافذة الشرقية الباب أمام الازدهار الاقتصادي في بلد غني بثرواته الكامنة من بترول وغيره، وشعب عريق في الثقافة؟ هل تمكنت إيران بانفتاحها شرقاً من اقناع الصين بالتبرّع بمشروع، ولو صغير، من دون مقابل بمونة من الرفيق «كزي جيبنغ»؟ هنا أيضاً محاولة ناجحة من السيد لإبهار من ينتظر منه الحل لكل معضلة، حتى أنّ حليفة وربيب نعمته رئيس التيار الوطني الحر تلعثم وقال الشيء وعكسه عند تعليقه على التوجّه شرقاً.

ما هو الحل إذاً، خارج نطاق السير على سطح الماء، مع أنّ الحل اليوم قد يحتاج لمن يسير فعلاً على سطح الماء؟ الحل يبدأ بالتواضع بأنّ لكل اختصاصه، أما التهافت فهو الحديث عن غير علم ودراية. وبعد التواضع، علينا مراجعة ما هو مضرّ وما هو مفيد، وبنظرة خاطفة على المضرّ في هذه اللحظة، وبغض النظر عن الشعارات، فهو سلاح الميليشيات غير الشرعي، وأولها المرتبط بإيران. فإن كان للسيد كلام مفيد فيجب أن يبدأ بالمفيد، أي تغيير كل ما بنى عليه امبراطوريته الوهمية.