IMLebanon

إنفجار المرفأ… هوية بيروت العمرانية اندثرت!

كتبت سمر فضول في صحيفة “الجمهورية”:

إبكوا كالنساء مُلكاً مُضاعاً… لم تحافظوا عليه كالرجال! إبكوا على وطن كنتم السبب في تدمير تاريخه واقتصاده وشعبه وماضيه ومستقبله… إبكوا لأنّ الشعب لن يرضى بما دون المشانق عقاباً لكم… إبكوا فإن أنصفتكم عدالة الأرض لن تنصفكم عدالة السماء… إبكوا رغم أنّ دموعكم لن تشفي غليل أهالي الشهداء ولن تعيد للناس أرزاقهم… إبكوا لأنّ المساعدات لن تصلنا كما هو مفترض خوفاً من أن تسرقوها… إبكوا فبيروت لا تعوّض…

على مدخل المرفأ الأساسي، يقف عدد من أهالي المفقودين، يتوسّطهم أحد ضباط الجيش اللبناني محاولاً إقناعهم بإخلاء المكان، فيجيبه أحد الآباء، الذي لا يزال مصير ابنه مجهولاً: «لو بِتقوّصني بنصّ صدري، لو بتِدعسني بالدبابة، أنا لن أخرج من حرم المرفأ، فلديّ شعور أنّ ابني على قيد الحياة، أنا أشعر بذلك، لن أغادر قبل معرفة مصير ابني». فيجيبه «الوطن» بِحَرقة: «يا بيّي رفقاتنا جوّا ولا نعلم مصيرهم، أضعنا خيرة شبابنا في الداخل، أفهم وجعكم… نحتاج بعض الوقت… أعطونا وقتاً».

هذا الحديث لم يقنع أخاً اغرَورقت عيناه بالدموع، عمل الجيش على إخراجه من حرم المرفأ بعد أن أمضى الليل كله يبحث عن أخيه تحت الرماد، يصرّ على الضابط بضرورة السماح لهم بالدخول مجدداً، يقول له: «لن أسرق، فتّشوني جيداً، ولن أقوم سوى بالبحث عن أخي، فربما أتمكّن من إيجاده…».

في صباح اليوم الثاني للانفجار، توجّه اللبنانيّون الى محيط مرفأ بيروت، ليشاهدوا بأمّ العين ما حصل في عاصمتهم. كذلك، كان للسيّاح من عرب وأجانب حضور كثيف في المحلّة، فقام بعضهم بالتقاط الصور التذكارية وخلفه دمار ما بعده دمار، في حين قام البعض الآخر بتوثيق فظاعة المشهد، في ذاكرة هاتفه، كيف لا وهو لن يحظى في بلاده بحكّام فاسدين، وتالياً لن يحظى بفرصة مشاهدة بلده ينهار كما حصل في لبنان.

تقترب أكثر الى حيث كان مدخل المرفأ، فترى الجيش يُحكم الطوق على المكان المنكوب، يحاول إقناع أهالي المفقودين بالانتظار في منازلهم لمعرفة مصير أبنائهم، إلّا أنّ محاولتهم تجبل بالدموع حيناً وبالخلافات أحياناً أخرى.

الى حيث كان المدخل الرئيسي، مشينا، أصوات «إنذارات الدخان» ما زالت وحدها تعمل هناك، أمّا عدا ذلك فكلّه أنقاض. قبل الوصول الى المدخل الرئيسي للمرفأ، عدد من المحال تطايرت أبوابها وتلفَت محتوياتها، أمّا ما بقي منها فيتناوب أصحابها على حمايتها.

في أحد «الكاراجات» هناك، ينام العامل في الداخل، فيما يقف صاحب المحل خارجاً، ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، ويقول: «المشهد سوداوي، نحمي أملاكنا بأنفسنا، ينام فرد منّا ويصحو الآخر، لن نترك ما تبقى من رزقنا يذهب سدى»، يلتفت نحو سيارته المحطّمة بالكامل، ويسألنا: «عرفتوا اذا رح يتطلّعوا فينا؟»…

تصل الى المدخل الرئيسي، حيث لا يسمح الّا للقوى الأمنية وللفرق الطبية من إسعاف وصليب أحمر وفوج إطفاء بيروت… بالدخول. أصوات نحيب الأمّهات تقطعه أصوات سيّارات الإسعاف، فتراهنّ يَهرعن نحو السيارات التي تخرج من داخل المرفأ، لعلّهن يَسمعن خبراً يبلسم جراحهنّ.

لم تنم أمهات المفقودين، إحدى النساء تجلس على حافة الرصيف وتصرخ من دون كلل أو ملل، نقترب منها فتخبرنا أنّ «زوجها بدأ العمل كعتّال في المرفأ قبل 23 يوماً فقط، لكنّه في الأساس كان موظّفاً في إحدى الشركات الكبرى التي تخلّت عنه مع اشتداد حدّة الأزمة الاقتصادية، إلّا أنّ ظروف الحياة أجبَرته على القبول بالعمل كمياوم في المرفأ خصوصاً أنّ لديه 3 أطفال عليه إعالتهم».

وتضيف: «إتّصلت به عند الساعة السادسة والنصف فور سماعنا صوت الإنفجار، لكنّه لم يجب. ومنذ ذلك الوقت لم أسمع عنه شيئاً، بحثنا في جميع المستشفيات، وناشدنا جميع المسؤولين لكن لا جواب»…

إطفاء بيروت».. حرقة لن تنطفئ!

بحسب المعنيّين في المرفأ، فإنّ أعمال الصيانة في عنبر رقم 12 انتهت عند قرابة الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم الانفجار، لكنّ الحريق اندلع بعد عدّة ساعات، من دون معرفة الأسباب الحقيقية وراء ذلك.

في المرفأ أيضاً تتضارب المعلومات عن مصير عناصر فوج «إطفاء بيروت»، لكنّ بعض عناصر الفوج الذين خرجوا من الداخل بعد ليلة قضوها في إخماد النيران والبحث عن رفاقهم، أكّدوا أنّهم «عثروا على بعض أجزاء الآليتين اللّتين استخدمتا في المهمّة، لكنّ في مكان آخر يبعد عن مكان الحريق، أي مكان العنبر رقم 12، والذي لم يعد موجوداً أساساً، إذ تطايرت الأرضية وحَوّلته قوة الانفجار الى مستنقع تملؤه مياه البحر».

الى حيث المركز الذي انطلق منه «شهداء الواجب» توجّهنا، هنا أيضاً الركام في كلّ مكان، المركز شبه مدمّر. يرفض المسؤولون هناك استباق التحقيقات، لكنّ دموع الموجودين الذين عايَنوا المكان تؤكّد أنّ «زملاءهم بحاجة الى معجزة للنجاة». أحد المسؤولين يقرّر الخروج عن صمته، ويشير الى أنّ «سحر فارس، لأنها مُسعفة، ورامي كعكي السائق لم يقتربا مثل زملائهما من مكان الحريق، ولذلك تمّ العثور على جثتيهما».

وعمّن أبلغهم عن نشوب حريق في المرفأ، يقول: «نحن نلبّي أيّ نداء يصلنا، فقد يكون المتصل أحد المارّين أو أيّ عامل في المرفأ رأى الحريق، لكن لا إمكانية لدينا لمراجعة ومعرفة مصدر الإتصّال نظراً للضرر الذي لحق بالمركز، وبجهاز الهاتف».

ويؤكّد أنّ «القوى الأمنية لم تكن على دراية بما يحمله عنبر رقم 12 من مواد شديدة الاشتعال، وإلّا لكانوا هم أيضاً أَخلوا المكان وخرجوا منه، أو لكانوا أبلغونا بخطورة الموقف». ويختم: «هذا واجبنا وعملنا».

أمّا باقي الفريق، الذي ما زال مفقوداً حتّى تاريخ كتابة هذه الأسطر، فهو مؤلّف من: شربل حتي وشقيقه نجيب، شربل كرم وجو بو صعب، مِثال حوّا، رالف ملاحي، إيلي خزامي، جو نون، فلم يصل أيّ خبر عنهم بعد.

في الجعيتاوي.. المخاطر لم تنته

الأضرار في محلّة الجعيتاوي تكاد لا تحصى من زجاج المحلّات المحطّم، الى الأبنية شبه المدمرة والمنازل التي لم تعد صالحة للسكن، الى الخسائر المادية.. كذلك، يؤكّد السكان أنّ أعداد المصابين في المنطقة كانت كبيرة، خصوصاً جرّاء تناثر الزجاج.

الجيش ضرب طوقاً أمنياً في المحلّة، الأهالي يتعاونون لإزالة الأضرار، شبّان من المنطقة يتنقّلون بين المنازل للمساعدة على تنظيف المنازل، وإزالة الزجاج، أصحاب المحلّات باتوا ليلتهم في محالهم، ومنهم من يؤكّد أنّه سيرحل قريباً لأنه فقد الأمل في وطنه، في حين يؤكد آخرون أنّهم باقون في محالهم وسيعملون على إعادة تأهيلها.

الأهالي يشيرون الى أنّ أحداً من المسؤولين لم يقم بزيارتهم، مُطلقين صرخة وجع على منازلهم التي ستكلّفهم مبالغ طائلة لإصلاحها.

الأسواق

المشهد مُبك في أسواق العاصمة، حيث تلقى الإقتصاد ضربة قوية. الكارثة الحقيقية هي في أسواق بيروت، التي لم تتنفّس الصعداء منذ سنوات، فشكّل انفجار المرفأ ضربة قاضية لها.

سوق الجميّزة خراب ودمّار، السيارات المركونة على جانبي الطريق كلّها تحطّمت من دون استثناء، كثيرة هي الأبنية التي سقطت، فيما لحقت بالبقية أضرار جمّة، وهي ما تزال مهددة بالانهيار. وعليه، نصحنا الجيش بالابتعاد.

في مار مخايل، إضافة الى كلّ الأضرار التي لحقت بالمنطقة التراثية وبرمزيتها العمرانية التاريخية، الأضرار جسيمة في مؤسسة كهرباء لبنان، ويمكن القول إنّ شركة النقل تدمرت بشكل شبه كامل.

طوني عويس أحد مالكي محلات المجوهرات في الشارع، يعبّر عن أسى وأسف لِما رآه في الدقائق الخمس الأولى بعد الانفجار، وكأننا في حرب. «تأمّلتُ في الناس وردّات أفعالهم، منهم من لاذ بالفرار، منهم من حاول توقيف سيارة للرحيل ولم يُوفّق بكريم نفس ينقله من المكان المحطّم، حتى أنني رأيت تلك المرأة تأخذ سيلفي وكان دمار كامل وراءها، ورأيت مَن جُرح وأصيب وبكى وتأسّف. فعلاً انها لعنة هذا الوطن»، كما يقول.

لا الكلام ولا الصورة يعكسان حجم الدمار الذي لحق بالعاصمة، لا شيء يُعوّض أهالي الشهداء، ولا الضربة التي تلقّاها الإقتصاد اللبناني، لا شيء يُعوّض على الناس، لا الصور ولا المواقف ولا البكاء على مواقع التواصل الاجتماعي… لا شيء يعوّض الوطن ولا شيء يعوّض لبنان…