IMLebanon

ماكرون او الفوضى

كتب كارلوس نفاع في “الجمهورية”:

حكمت جغرافيا لبنان انسانه بأن يعيش دوماً على صفيح ساخن ثقافي، انساني، اقتصادي. إنّ وجوده على الحدّ الفاصل بين الصفيحة العربية والصفيحة الإفريقية التكتونية، يبدو أنّه أكثر من مصادفة لا بل قدر.

من فينيقيا إلى اليوم، عبره الفراعنة والفرس والمقدونيون وغيرهم كثر. وتركوا نقوشهم في كل ربوعه. ومن حينها يسعى للحياد بين النيل والفرات وبين الشرق والغرب، من دون أن يُكتب له النجاح، وفي رأيي، لأننا في كل مرّة لم نطرحه إلّا عندما نكون في عين العاصفة.

فقد فشلت كل الصيغ والتجارب، من القائمقاميتين والمتصرفية ولبنان الانتداب وصولاً الى الاستقلال الميثاقي وجمهورية الطائف. كلها كانت نتاج تبدّل موازين القوى إلاقليمية والدولية الشرقية والغربية، لذلك كانت غير مستدامة وهشة.

فما هو الجديد اليوم في طرح البطريرك الراعي حول حياد لبنان الايجابي او الفاعل؟ وهل بلغنا في لبنان اللحظة التاريخية التي وصلت إليها سويسرا في مؤتمر فيينا عام 1815، ونجحت من خلاله في اختبار الحياد الفاعل، والذي حماها من الحركات القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر، ووحدّها للدفاع عن حدودها في الحربين العالميتين، وجعل منها مساحة حوار للديبلوماسية الدولية والاقتصاد الحر، ما أمّن لها موارد مالية ضخمة رغم صغر حجمها وامّن استقرارها منذ اكثر من قرنين من الزمان؟

كيف للبنان ان يحقق حياده في لحظة انكفاء دول الخليج العربي عنه ببركة اميركية، وبدئها بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل بوتيرة متسارعة، بدأت تظهر محوراً اقتصادياً سياسياً، وقد يهدف الى تعاون امني وعسكري في المستقبل؟

كيف للبنان أن يحقق حياده في لحظة الذروة للثورة الإسلامية الإيرانية في اليمن والعراق وسوريا، ومحاولتها تأطير لبنان ضمن ثورتها؟

كيف لنا الحياد في لحظة خروج تركيا «العدالة والتنمية» إلى مياه بحر ايجه في مواجهة اليونان ومن خلفها فرنسا، ودخولها شمال أفريقيا، انطلاقاً من ليبيا، ما اعتبره الرئيس ايمانويل ماكرون تهديداً للأمن القومي الفرنسي، وحتى محاولتها تبنّي مجموعات في لبنان، كما أوردت تقارير أمنية عدة أخيراً؟.

كيف لنا الحياد أمام «قانون قيصر» والعقوبات الاميركية التي تتوسع أكثر فأكثر لتزيد من شدّة الأزمات؟ وماذا عن الكباش الاميركي- الصيني والاميركي- الايراني، والتباين الاميركي- الفرنسي تجاه إيران ولبنان خصوصاً، والسعي الروسي، ربما للنفاذ إلى شاطئ صور، وخصوصاً أنّه لا يرتاح الى الدور الفرنسي الذي قد يخلط كثيراً من الأوراق، كما حصل في القرن التاسع عشر، ويحدّ من حركته واستثماراته في المياه الدافئة؟

في خضم كل هذا، هل يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو كليمنس فون مترنيخ، الذي أُطلق عليه لقب «امير الوفاق»، الذي كان له جهد مميز لنجاح مؤتمر فيينا وولادة حياد سويسرا، بتوافق كل المتنافسين والمتخاصمين؟

فهل أطلق ماكرون من بيروت مبادرة تجعل من لبنان سويسرا الشرق وواحة سلام، بتوافق ايراني- خليجي، يجعل من فرنسا عرّابة الحوار في المنطقة، ويجعلها اقوى في حوار المواجهة مع تركيا، الذي أوحى اردوغان بالرغبة به، حين نصح اليونان بالتعقل، لأنّ من يقف خلفها سيتخلّى عنها وتبقى وحيدة في مواجهة مصير صعب؟

وهنا يأتي السؤال الأهم، هل أنّ ايران أصبحت مستعدة للحوار والمساومة لفك العزلة غرباً ولو جزئياً عبر «حزب الله» في لبنان؟

وإن عرضت الديبلوماسية الفرنسية ذلك، هل لـ»حزب الله» المرونة الداخلية لتلقف هذه الفرصة، لفك الارتباط بمشروع الثورة الإسلامية الإيرانية مالياً وعسكرياً، والبدء بلبننة الحزب عبر سلّة مكاسب سياسية واقتصادية سيحملها وزراء الرئيس الفرنسي ماكرون الستة المرافقين له ضمن زيارته لبيروت، في اطار خطة لإنقاذ لبنان، وخصوصاً بعد فتح رئيس الجمهورية اللبنانية في الأمس في حواره مع مجلة «باري ماتش» باب المناورة، حين أكّد أنّ «حزب الله» لا يحمل مشروعاً اقليمياً، بل هو لبناني، ويسعى للانخراط في بناء لبنان؟

إن لم يكن ماكرون مترنيخ، فهل نحن امام جورج كليمنصو آخر، يدفع نحو ديبلوماسية مواجهة، كالتي شهدها مؤتمر فرساي 1918، وحققت لفرنسا مصالحها على حساب استقرار الآخرين، مما مهّد للحرب العالمية الثانية؟

إنّ تحقيق مصالح فرنسا في شرق المتوسط لا يمكن أن يكون مستداماً، إن اتت الحلول على حساب طرف واحد، لأنّه يكون مدماكاً لأزمات وحروب جديدة. وما يُخشى منه، هو ان يعود لبنان ساحة للنزاع الدولي المفتوح، بحيث تكون فرنسا فيه «رأس الحربة»، وتدعم بانتشار قوات دولية على الحدود، تضمن عزل «حزب الله» عن سوريا، والتحكّم بحركة المطار والموانئ البحرية. وأن تتمّ مواجهة «حزب الله» عبر توتير الداخل شمالاً وفي البقاع الأوسط وبيروت، لكي تُنزع عنه هالة المقاومة، ويصبح الحزب ميليشيا داخلية، تورط بالدوامة التي سقطت فيها حركة فتح في اوساط السبعينات. وبالتالي يجنح البلد الى حروب داخلية جديدة وأزمات لا متناهية، يعود فيها امراء الحرب إلى حظائرهم الطائفية، وكلاء لمصالح الدول الإقليمية الفاعلة والتي خبروها في الثمانينات من القرن الماضي. ولا تنتهي إلّا بعد زوال لبنان الذي نعرفه.

امام هذه المشهدية، يضحى طرح حياد لبنان، الذي أصبح في عين الاعصار، خشبة خلاص للجميع، لأنّ استمرارنا ساحة مفتوحة في نزاع المحاور والنزاع الجيوسياسي المتسارع في شرق المتوسط، واشتداد عزلتنا عن الخليج العربي، سيقضيان حتماً على ما تبقّى من لبنان و يعرّضانه للزوال. وهذا ما حذّر منه وزير خارجية فرنسا جان ايف لودريان.

اليوم، وبعد المئوية الأولى للبنان المعاصر، وفي لحظة جيوسياسية أكثر خطراً على وجوده، قد تجعل من مرفأ حيفا بوابة الخليج العربي عاجلاً أم آجلاً وقبلة استثماراته. في لحظة ارتبط مصير النفط والغاز اللبناني بالبلوك الرقم 9، ومصير لقمة عيش اللبنانيين واقتصادهم ارتهن بإصلاحات بنيوية يتهرّب منها كل الزعماء، لما تشكّله من نهاية للمال السياسي والزبائنية وتفضح المستور.

هل ينجح ماكرون بإقناع اللبنانيين للسير معاً، ليكون لبنان أولاً مساحة لقاء انساني واقتصادي، واحة سلام محايدة في شرق متفجّر، ام يفشل ويرمون أنفسهم الى التهلكة الحتمية؟

إلى أن تأتي الإجابات التي ستكون سريعة، وفي غضون الأيام المقبلة المنظورة، نطلق الصرخة الأخيرة، نناشد فيها الجميع التراجع خطوة إلى الوراء لحكومة قادرة انقاذية، لوقف الانهيار الشامل الذي نعيش، ما يهيئ لحوار سياسي وطني، يبني حياد لبنان الايجابي والفاعل. لكي يبقى لبنان وطن إلانسان كل إنسان ومنارة حرّية في عالمنا المظلم.