IMLebanon

ماكرون بين اعتذار أديب و”النحيب”

من زاوية جيوبوليتكية، مستندة الى التاريخ والثقافة (الانتداب والفرانكفونية) تحرك ايمانويل ماكرون، باتجاه لبنان، في لحظة، زمنية، بالغة التعقيد، لهذا البلد، الذي كبر مع فرنسا، ووضع دستوره الأول، على غرار دساتيرها، المبتناة على حقوق الإنسان والمواطن، والمجتمع السياسي والدستوري الأوروبي، المتأثر، والمؤسس على الإرث الحقوقي والقانوني والفلسفي لعصر التنوير، والحداثة الغربية، المتأصلة مع الثورة الفرنسية، لكنه لم يتمكن من مغادرة النظام الطائفي، الذي يعرفه الفرنسيون جيداً، الى ما يمكن وصفه بالنظام المدني، المبتعد عن العلمانية، الملحدة، إذا صحَّ القول، أو الدولة المدنية الغامضة، التي يطالب بها رئيس مجلس النواب، الحالي في لبنان، من موقعه الشيعي، رداً على سحب وزارة المال من يد طائفته، مع العلم أنه على أرض لبنان الرسالة، من وجهة نظر رئيس الجمهورية الحالي، وهو ينتمي الى الموارنة، لتلك الطائفة الكاثوليكية المسيحية، التي عهد الى كادراتها، المعدة، وفقاً للنظام الفرنسي، أن تدير البلد، محققة نجاحات واخفاقات، من المعجزة الاقتصادية، الى «فتح لاند» (أو اتفاق القاهرة) ومن الابتعاد عن الصراع العربي- الاسرائيلي في حرب 1967، الى زج البلد في أتون صراعات اقليمية – دولية، من حلف بغداد الى اتفاق 17 أيار، وما بينهما، وصولاً الى «المساومات التاريخية» إبان حرب الخليج الثانية (1990)، وولادة اتفاق الطائف، وانهيار تجربة الميثاق الذي ولد، بثنائية طائفية عام 1943، عام استقلال لبنان..

وبمعزل عن تداعيات الولاءات اللبنانية، ومرجعياتها الاقليمية والدولية، خلال قرن كامل، من تبدلات الانتماء الطائفي، الى تبدلات الانتماءات الحزبية، بتياراتها المتعاقبة، من القومية الى الأممية الى التيارات العنصرية، وصولاً الى التيارات الاسلامية، التي تجمع بين الاعتدال والراديكالية، حافظت فرنسا، على قوة السحر لدى اللبنانيين، بجامعاتها ومدارسها، وتأشيرات الدخول، والتزاوج، والجنسيات، والمشاركة في وحدة «اليونيفيل» العاملة في جنوب لبنان، والدعم الدبلوماسي المستمر في ما خصَّ التجديد لقوات «اليونيفيل» العاملة في الجنوب منذ العام 1978.

عندما جدَّد الرئيس ماكرون الاهتمام الفرنسي الاستثنائي بالبلد، بعد انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، وأطلق مبادرة «الفرصة الذهبية» للإنقاذ المالي والاقتصادي، في 1 ايلول من قصر الصنوبر، في معرض إحياء مئوية اعلان دولة لبنان الكبير، على يد المفوض الفرنسي الجنرال هنري غورو «من النهر الكبير الى أبواب فلسطين وقمم لبنان الشرقي ورأس الناقورة». وهكذا مع الأقضية الاربعة كبر «لبنان المستقل»، ووضع له قانون اساسي او دستوري.. لم يكن الرجل، المندفع الى تحقيق «شيء ما» على الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، حيث المهمة البارزة، طرد «العثماني الجديد» رجب طيب اردوغان منها، بدءاً من السواحل الليبية وصولاً الى السواحل اللبنانية، مع التسليم بدور كبير لروسيا فلاديمير بوتين في شواطئ اللاذقية وطرطوس على امتداد الساحل السوري..

كتب ماكرون وفريق عمله، وعلى رأسه مدير المخابرات برنار ايمييه والسفير بون خارطة الطريق، من «حكومة المهمة» الى المرحلة الانتقالية، لإنتشال النقد والاقتصاد والنظام المصرفي من العقر، وصولاً الى زيارة ثالثة الى بيروت، مسبوقة بمؤتمر اقتصادي دولي، يعقد نهاية الشهر المقبل، في العاصمة باريس.. لجمع ما يلزم من مال، شبيه بمؤتمر «سيدر» الذي حشد له ما لا يقل عن 11 مليار دولار، لكنه لم يرَ النور.

كانت كلمة السرّ الفرنسية، التي شاعت على الألسن، وفي كل مكان  مرت به «المبادرة» ان لا عطاءات او مساعدات او هبات أو قروض ما لم تشكل «حكومة مهمة»، رشح لرئاستها السفير اللبناني في بون (ألمانيا) مصطفى أديب، الذي ما  ان التقى «المهمة» كما هي مرسومة، حتى راح يتصرَّف، كسفير، وليس كسياسي، من زاوية انه يسعى الى «حكومة اخصائيين» وكأن المسعى وإدارة الحكم، ليس عملاً سياسياً..

اصطدم الرجل «بالحاجز الاسمنتي الطائفي»، وراح يبحث عن مسار، تجاوز «مهلة الاسبوعين»، التي حددها ماكرون بلسانه، في مؤتمره الصحفي، الذي كان يتحدث فيه «حديث الفاتحين؛، المطمئن الى خياره وقراره..

كذبت «المياه اللبنانية الآسنة» الغطاس ماكرون، وأثبت، في نظر كثيرين، انه لا يتقن فن «الغطس»،بل ربما «فن العوم»… وما إن انكفأ اديب  عن «حكومة المهمة»، بإعلان الإعتذار، على طريقة «الخروج الأبيض» من «المهمة البيضاء» أو «السوداء» (العلم عند الله) حتى انبرى الاليزيه لإعلانات ثلاثة، في وقت لا يتجاوز الدقائق او الساعات: المبادرة الفرنسية مستمرة، الطبقة السياسية اللبنانية ارتكبت «خيانة جماعية»، الرئيس ماكرون سيعقد مؤتمراً صحافياً حول لبنان (عقد امس الأحد)..

يتضح مما تقدَّم أن: مهلة 15 يوماً لتأليف الحكومة، لم تكن مهلة إسقاط، بل مهلة حثّ على طريقة المحامين، او قوانين المهل، في المحاكمات، او الدساتير المرنة.. إذاً لم تنتهِ المبادرة الفرنسية، باعتذار رجل المبادرة السفير اديب، ولا بالقضاء مهلة الأسبوعين، المحددة في كتاب «وصايا ماكرون» لأصدقائه او حلفائه النجباء، في «دولة لبنان الكبير»..

يأخذ الرئيس ماكرون، في حساباته، وهو يعيد النظر في قراءة المشهد، مع السقوط المدوي لخطة، المتمسك بها، دموع التماسيح، التي ذرفها، اللاعبون المحليون، على مسرح الدمى اللبنانية: بعبدا، تعلن ان المبادرة الفرنسية مستمرة، بمبادئهاالاصلاحية (لا أحد يدري كيف تستمر) وعين التينة، التي تقيم ألف حساب للغضب الفرنسي، تعلن، عبر بيان مكتوب، ومعمم، انها أكثر تمسكاً، من اي طرف بالمبادرة الفرنسية (بالامكان قراءة البيان مرات عدة لفك ألغازه)، وبيت الوسط، ينفض يده من اللعبة، ويتوعد الذين ظلموا «الاليزيه» وما قدم هو من تسهيلات، بقبول ان يتولى شيعياً وزارة المال، بأي منقلب سينقلبون (عبر عض اصابعهم ندامة)، وينحو به الغضب، وهو المختلف مع زملائه، في نادي رؤساء الحكومات السابقين، الى الاعلان،ان لا شأن له بتسمية شخصية سنية جديدة لرئاسة الحكومة، او المشاركة فيها، او حتى رئاستها، بل ربما ابعد من ذلك، مقاطعة الاستشارات النيابية الملزمة عندما تحدد مواعيد جديدة لها… ولا يكتمل مشهد النحيب اللبناني، قبل إعلان النائب السابق، والاشتراكي الحالي وليد جنبلاط، انه اكتشف انه كان وحيداً في دعم وتبني مبادرة ماكرون.. لتصل المسألة، ان «القوات اللبنانية» التي استدركت بعد لحظات من اعتذار الرئيس المكلف بـ «90 صوتاً» انها ستسميه هذه المرة لرئاسة الحكومة، ولو لم يكن مرشحاً لها…

هل المشهد اللبناني، التراجيدي، والمضحك، والمسلي، في وقت واحد، سيحضر في المشهد، قيد التقييم في الاليزيه، وكيف؟

ثمة سؤال، يفرض نفسه: اذا كانت الطبقة السياسية في غربة عن شعبها، وإذا اضاف ماكرون «الخيانة لها»، فكيف يمكن ان يتعامل مع «خونة مجدداً»؟

أولم يسمع الرئيس الفرنسي، الذي يطمح للعب دور بارز على المسرح الاوروبي (دعوة رئيس جمهورية بيللاروسيا الى التنحي) بأن المؤمن لا يلدغ من الحجر مرتين»؟

قبل ان ينهي ماكرون مؤتمره الصحفي في 2 ايلول الجاري، توعد الطبقة السياسية «بعقوبات» اذا أخلت بالوعد او العهد الذي قطعته له.. فهل يكتفي الرجل بالعقوبات الأميركية، أم يهز العصا الفرنسية..

بلغ «التذاكي اللبناني» حدّه الأقصى، في اللعب عند حافة الهاوية، غير عابئ، بانهيار مصرفي، او دولاري، او نقدي، او اقتراب من «خطوط الجوع» والظلمة والعطش، وفقدان الدواء.. وراح يكمل المسار، بالوفاء بالتزامات «طائفية من هناك» وارتباطات ضمن «المحاور الاقليمية»المتصارعة من هناك..

ومع ذلك، يمضي الرئيس ميشال عون، بالحفاظ على قسمه (وفقا لتغريدته امس) بصون استقلال الوطن ووحدة اراضيه..  وسيبقى سداً منيعاً، «بوجه كل من يحاول المسّ بمضمونه) قسم اليمين).. ويمضي الرئيس ماكرون الى «مبادرته المستمرة»، في وقت تنتظر فيه البلد، المتروك بقدره، اياماً صعبة، قد يختلط، فيها الدم مع العناء، سواء في الشمال، أو الجنوب او أي جزء من «لبنان الكبير» الذي لا تحميه لا السدود ولا الوعود!