IMLebanon

لاجئون مع حق حصري بالهجرة

كتبت ألين الحاج في “الجمهورية”:

لطالما انقسم اللبنانيون بين مؤيّد للقضية الفلسطينية وبين من وَضعته الظروف في مواجهةٍ مع الفصائل الفلسطينية المسلحة. لكن مهما كانت الأسباب التي أدت إلى ذلك الانقسام، إلّا أنه وبعد انتهاء النزاع المسلح فإنّ فئة من اللبنانيين لم تتغلب على آثاره في نفوسهم، لأنّ خوفها من خطر التجنيس الذي يتهدّد وجودها ساهَم في وضع عراقيل عدة أمام اندماج اللاجئين الفلسطينيين في المجتمع اللبناني، أبرزها عدم توسيع حقهم بمزاولة كافة المهن، وتحديداً تلك التي تحتاج شهادات عالية

منذ مدة، وبحكم عملي، حدثَ أن دخلتُ للمرة الأولى إلى أحد المخيمات الفلسطينية: إنه مخيم شاتيلا في بيروت، والعبور إليه لا يتم إلا سيراً على الأقدام. ركنتُ سيارتي في منطقة محاذية تدعى أرض جلول، وتوجهتُ نحو تلك البقعة التي أستكشفها للمرة الأولى.

التاريخ 4 آب 2020 والساعة حوالى الثانية والربع من بعد الظهر. كان يوماً عادياً من أيام الصيف، لكن في لبنان لا شيء عادياً إذ كنّا نتخبّط في أزمة اقتصادية لا مثيل لها، وكان فيروس كورونا يتفشى بطريقة جنونية.

حين اجتزتُ آخر جزء من أرض جلول، بدأ قلبي يخفق ليس خوفاً بل رهبة، فأنا في مخيّم شاتيلا الخارج عن السلطة اللبنانية. لكنني تابعتُ طريقي بخطوات ثابتة، ووجدتُ نفسي في شارع قيل لي لاحقاً إنه الشارع الرئيسي، وكنت أضع الكمامة للوقاية من انتقال عدوى كورونا.

الشارع كان يعجّ بالناس، وعلى جانبيه تتواجَد المحال التجارية لكنها فقيرة جداً وبعيدة كل البعد عن أي شكل من أشكال الديكور الذي اعتدنا عليها. فهنا محل وُضعت أمام واجهته بسطة لأدوات منزلية وعطورات وألعاب، وذلك محل أحذية من الماركات العالمية التي تم تغيير حرف أو اثنين من اسمها وقد وضع صاحبه قسماً من بضاعته أمام المدخل، وهذا بائع الدجاج وهو أيضاً وضع الأقفاص في الطريق أمام محله. كان كل شيء يتدفق إلى الخارج، البضاعة وأصحاب المحال، ويختلط الزبائن بعضهم ببعض، أمّا أنا فكنت أشقّ طريقي في ما بينهم إلى أن وصلتُ إلى وجهتي الأولى.

أمضيتُ هناك حوالى الساعة، لكن لفتني ما قاله لي أحد الأشخاص: «أتعجّب من كونِك أتيتِ وحدكِ إلى هذا المكان. ألا تخافين؟» في الواقع لم أكن خائفة، ومع ذلك وبعد أن أنهيتُ المهمة الأولى، طلبتُ منه مرافقتي إلى وجهتي الثانية لأنه أخبرني أنني كلما توغّلتُ إلى الداخل يصبح المكان أكثر خطراً، فهناك المسلحون ومن يتعاطون المخدرات والخارجون عن القانون.

إنطلقنا سوياً وابتعدنا عن الشارع الرئيسي قليلاً، فتغيّرت الأماكن وأصبحت الطرقات ضيقة، ثم فجأة رأيتُ صوراً عملاقة لكبار المسؤولين الفلسطينيين، الراحلين منهم والأحياء، وعرفت أننا كنّا أمام مركز يعود لأحد الفصائل الفلسطينية في المخيم. للحظات تَملّكني الخوف إذ لم أعتد رؤية هذه الصوَر في القسم اللبناني من لبنان. لم أقل شيئاً، بل تابعتُ طريقي برفقة أمين، وجلتُ في أزقّة غير نظيفة وبين مَبان نال منها الزمن. إنها منطقة سكنية لكن يوجد فيها محلات سمانة وأخرى لبيع الهواتف الخلوية والخرضوات، كما يوجد مَقاه ومراكز طبية، غير أنني فوجئتُ بمعرفة أنّ من يدير هذه المؤسسات، وبالأخَصّ المراكز الطبية ومحلات صيانة الهواتف الخلوية، ليسوا فقط من اللاجئين الفلسطينيين بل أيضاً من النازحين السوريين. كما عرفتُ أنّ مخيم شاتيلا بدأ يفرغ من سكانه الأصليين، وهو اليوم يعجّ بالنازحين السوريين الذين باتوا يشكلون على حد قولهم 30 % من سكانه مقابل 50 % من سكانه الفلسطينيين و10 % من اللبنانيين، بإلاضافة إلى 10 % من جنسيات مختلفة.

أطباء سوريون وممرضون انتقلوا للعمل في لبنان، وتحديداً في المخيمات، وافتتحوا المستوصفات. كذلك تبيّن لي أنّ صيانة الهواتف الخلوية هي مهنة يبرَع فيها السوري، وقد حملها معه من بلده واخترق بها السوق اللبناني وسوق شاتيلا أيضاً.

غادرتُ المخيم عند الساعة الخامسة من ذلك النهار، لكنني تابعت التواصل مع فئة من الشبّان والشابّات الفلسطينيين من أبناء المخيمات. لقد اكتشفتُ أنهم طموحون جداً، ويحاولون البحث عن الجمال بين الأزقّة الفقيرة المعدمة، سلاحهم الوحيد هو العلم لأنهم على يقين أنه وحده القادر على فتح آفاق واسعة أمامهم، إن كان في لبنان أو في الخارج، وعلى إبعاد شبح البطالة عنهم فلا يتعثّرون في محيطهم الذي يَشدّهم للأسفل إذا استسلموا له مثلما فعل آخرون.

إكتشفتُ عطشهم للعيش بكرامة، ورفضهم القاطع للتسلّح رغم تمَسّكهم بحق العودة. إنهم يحبّون لبنان، ويعتبرون أنفسهم جزءاً من نسيجه، ويواجهون كما يواجه اللبنانيون المَدّ القادم من النازحين السوريين الذي يهددّ اليد العاملة منهم وهي تشق طريقها نحو العلم.

نعم المشهد سوريالي، فالشباب الفلسطيني المتعلّم اليوم لا يطلب سوى الأمان في كنف الدولة، ويريد منها أن تمنحه الحق بالعيش الكريم مثله مثل الشباب اللبناني، وإلّا فكلاهما مُهدّد بالهجرة.

غادرتُ المخيّم عند الساعة الخامسة من ذلك النهار الواقع فيه 4 آب، ووصلتُ إلى منزلي في السادسة مساءً. وعند الساعة 6:07 دقائق دوى ذلك الانفجار الضخم في مرفأ بيروت، ليقضي على آخر أمل لدى اللبنانيين في الحصول على بلد سيّد حرّ. حينها فهمتُ أننا نحن اللبنانيين، ولسخرية القدر، لاجئون أيضاً في وطننا مع فارق بسيط، ألا وهو أنّ اللبناني فقط يمتلك امتياز الهجرة والحق الحصري فيها، أمّا الفلسطيني فلَه طريق التَرحال إلى أقاصي الأرض.