IMLebanon

تغيير النظام السياسي خطأ فادح

كتب جوني منير في “الجمهورية”:

ربما هو التوصيف الأدق الذي ردّده احد العاملين الاساسيين على خط التفاوض الحكومي، وهو حليف لرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، حين قال: «المعطيات التي املكها تؤكّد بأنّ الابواب مقفلة امام تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة المقبلة، لكن شعوري بأنّ هذا التكليف سيحصل».

في الواقع، فإنّ كل المؤشرات تدفع بهذا الاتجاه، باستثناء اعتراض رئيس الجمهورية المتمسّك بترتيب تفاهم بين الحريري وباسيل، قبل حصول المشاورات. فمعظم القوى الداخلية باتت مواقفها محسومة، والأهم الظروف القاسية التي أرهقت المواطنين على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، وهو ما يمنع ترف تنفيذ المناورات. اضف الى ذلك، دخول فرنسا على الخط بقوة، واعلان واشنطن بشكل واضح ضرورة ولادة الحكومة.

وخلال الاسابيع الماضية، وتحديداً منذ لحظة اعتذار مصطفى اديب وسقوط النسخة الاولى من المبادرة الفرنسية، دار نقاش واسع في الكواليس حول السبب الفعلي الذي يقف وراء ولادة الحكومة. تذرّع البعض بأنّ واشنطن وقفت وراء العرقلة، لكن باريس كانت تعرف جيداً انّ العاصمة الاميركية الغارقة في فوضى وحمى الحملات الانتخابية، انما تريد هي ايضاً حكومة في لبنان قادرة على تمرير المرحلة.

وفي كلمته غير المسبوقة، حمّل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون «حزب الله» المسؤولية الكبرى، ولكن لأي هدف!

لم تقتنع الاوساط المتابعة للملف اللبناني، بأنّ حقيبة المال هي السبب الفعلي لإجهاض المبادرة الفرنسية، خصوصاً وانّ الحريري كان قد امّن الغطاء لأديب لتسمية وزير شيعي عن المالية. لكن رئيس الجمهورية ومعه «التيار الوطني الحر»، كانا قد باشرا التمهيد لدخولهما على الخط وتمسّكهما بتسمية حقائبهما ووزرائهما اسوة بـ»حزب الله». وهو ما كان يعني ضمناً، أنّ حكومة اديب ما كان لتُكتب لها الولادة.

قرأ الديبلوماسيون الاوروبيون وجود تفاهم بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» على اطلاق النار على الحكومة كل من زاويته. أما الهدف فهو ابعد من ذلك. فـ»حزب الله»، المُحرج من اي احتقان سنّي – شيعي قد يحصل، يدرك جيداً أنّ الشرق الاوسط على بعد اشهر معدودة من مفاوضات اميركية – ايرانية لن تكون روسيا بعيدة منها، وستنتهي الى رسم خارطة جيوسياسية جديدة من خلال انظمة جديدة، مثل ما سيحصل في كل من سوريا والعراق.

وهذه المفاوضات ستشمل لاحقاً ملف السلاح في لبنان وايجاد ترتيب له، وهو ما تعنيه بطريقة او بأخرى مفاوضات الترسيم البحري مع اسرائيل. وانّ هذه المفاوضات سترسم لاحقاً الحدود اللبنانية – السورية. لذلك ربما من الافضل تأمين الظروف المطلوبة التي ستدفع لإنتاج نظام سياسي جديد في لبنان، ولم لا المثالثة. والمقصود بالظروف المطلوبة، هو ما يشبه ما سبق وواكب ولادة اتفاق الطائف، لناحية أنّ تفكيك مؤسسات وركائز الجمهورية الثانية سيدفع بالجميع للبحث عن تأمين الاتفاق حول الجمهورية الثالثة.

هكذا في العام 1989، تفكّكت ركائز الجمهورية الاولى مع وجود حكومتين وقرارين وجيشين الى جانب جحيم الحرب، ما فتح الطريق امام اتفاق الطائف.

واليوم، فإنّ استمرار الفراغ الحكومي الى جانب الانهيار الاقتصادي والمالي والفوضى في الشارع والأرجح سقوط دماء، كل ذلك سيدفع باتجاه التفاهم حول الجمهورية الثالثة.

وما عزّز هذه القراءة، الخطاب الذي ادلى به رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل في ذكرى 13 تشرين. هو تحدث عن الرفض النهائي للحريري على رأس حكومة من الاختصاصيين، فيما هو يعلم بأنّ حكومة سياسيين غير واردة في الحسابات الدولية، وهذا هو تفسير الكلام الاميركي حول رفض تمثيل «حزب الله» في الحكومة.

لكن الجديد اللافت هو تخصيصه مساحة واسعة من خطابه للدعوة الى تغيير النظام السياسي.

ولكلامه هذا اسباب ثلاثة:

1 – انتهاج خطاب يدغدغ به الشارع المسيحي، من خلال التلويح بالذهاب أبعد كما قال. وهو يأتي في سياق محاولة استعادة ما خسره في الشارع، وينبئ بأنّه سيعتمد سياسة «اقصى اليمين» واللعب على المشاعر، من الآن وصاعداً. لكن الشارع المسيحي يضع في هذه المرحلة اولوية الفساد والجوع على اية اولوية اخرى.

2 – التصعيد بوجه سعد الحريري، من خلال الدعوة لإلغاء اتفاق الطائف. وهذا الاسلوب كان جرى اعتماده قبل موافقة تيار «المستقبل» على قبول ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. يومها تضمنت التسوية الرئاسية بنداً اساسياً التزم به العماد عون واعلنه باسيل خلال مقابلته التلفزيونية، بتمسّكه باتفاق الطائف.

3 – التقاطع مع «حزب الله» حيال الاستعداد بالذهاب الى مشروع البحث بصيغة سياسية جديدة.

لكن مشروع الذهاب الى البحث بصيغة جديدة للنظام اللبناني بحاجة الى شروط اساسية ليست متوفرة حالياً.

صحيح انّ الانهيار الاقتصادي والمالي واستكمال تفكّك مؤسسات ومقومات جمهورية الطائف يشكّلان بنداً اساسياً، الّا انّ طي صفحة الجمهورية الاولى استوجب موافقة دولية ليست متوفرة في الظروف الحالية.

فيوم فتحت مدينة الطائف السعودية ابوابها لإنجاز الاتفاق، كانت سوريا موجودة الى جانب السعودية، وكانت الفريق الاقليمي الاقوى في لبنان. كذلك كان الفاتيكان على متابعة لحظة بلحظة من خلال بكركي. والاهم وربما الاساسي، كانت واشنطن تتولّى الرعاية المباشرة من خلال احد ديبلوماسييها دايفيد ساترفيلد، الذي تواجد كل الوقت في مدينة الطائف.

اما اليوم، فلا تكفي رغبة فريق او فريقين لبنانيين للذهاب في هذا الاتجاه. ذلك انّ الفاتيكان الذي يرى في لبنان آخر معقل وجود سياسي للمسيحيين في الشرق، يبدي خشيته من هزّ بنود اتفاق الطائف، لأنّ موازين القوى ليست في مصلحة المسيحيين، والاتفاق يأتي عادةً كترجمة مباشرة للمعادلة على الارض. ومعه فهو يخشى تكريس خسارة سياسية نهائية للمسيحيين.

كذلك، فإنّ واشنطن المنشغلة في التحضير لورشة اعادة رسم خارطة نفوذ في المنطقة، لا تبدو في وارد اللعب بالمعادلة السياسية على مستوى السلطة في لبنان، وهي تعتبره خطأ جسيماً.

لكن باسيل وفي صراعه مع الحريري، يحاول ان يعمّم صورة الصراع المسيحي – السنّي. وارسل الى «القوات اللبنانية» من خلال وسطاء للتفاهم سوياً حيال الحكومة، لا سيما بأنّ موقفهما يتقاطع برفض الحريري. لكن «القوات» تنحّت جانباً ورفضت الذهاب في هذا الاتجاه. وهي كانت رفضت قبل ذلك طلباً من الحريري، بإعلانها تسمية شخصية اياً كانت لرئاسة الحكومة، بدل الاقتراع بورقة بيضاء.

في المقابل، بقي الحريري مرشحاً لتشكيل الحكومة، ولم يقدّم اعتذاره بعد تأجيل موعد الاستشارات. وأثنى مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا باتريك دوريل على موقفه، وطمأنه الى أنّه سيسعى لمعالجة عقدة باسيل. وفهم انّ دوريل تواصل مع باسيل، ولكن من دون نتيجة حتى الآن، فيما الرئيس نبيه بري يتولّى الفرقاء الآخرين بما فيهم «حزب الله».

من جهته، وبخلاف ما هو معلن، فإنّ «حزب الله» لم يتلق سوى عموميات ايجابية من الحريري، فيما هو يريد الدخول في التفاصيل. أما الموقف الاميركي فلا بدّ من قراءته جيداً.

فعدا انّ واشنطن غارقة في احدى اعنف الحملات الرئاسية في تاريخها، الّا انّها تضع الاولوية في لبنان في هذه المرحلة على ملف ترسيم الحدود البحرية.

وهي مرتاحة لهذا المسار حتى الآن، وانعكس ذلك باجتماع ايجابي لمساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد شينكر مع الرئيسين عون وبري. لكن لا بدّ من التوقف ملياً عند التوضيح الذي صدر فوراً عن السفارة الاميركية، رداً على بيان قصر بعبدا.

وفي هذا التوضيح النادر، فصلٌ بين موقف واشنطن عن الفساد ونظرتها للطبقة السياسية اللبنانية عن ملف ترسيم الحدود.

والتكملة كانت اوضح، مع استثناء ثانٍ عن لقاء جبران باسيل. وهو يجدد الاستنتاج بأنّ اسم باسيل لا يزال على لائحة العقوبات، خصوصاً وانّ لقاءات شينكر طالت الكثير من المسؤولين، والتي كان اهمها زيارة سليمان فرنجية في بنشعي، وبالتالي فصل وضعه السياسي عن تأثير قرار العقوبات على الوزير السابق يوسف فنيانوس. وهنالك ما هو اكثر تعبيراً، حيث انّ شينكر يدرك انّ فرنجية هو الحليف الاقرب للرئيس السوري بشار الاسد. وفي ذلك اشارة بليغة ودلالاتها بعيدة.