IMLebanon

مئة عام على ولادة دولة لبنانية لم تبنِ وطنًا

كتب خلدون عريمط في “الجمهورية”:

مع بداية القرن الماضي، وعلى أثر انهيار الدولة العثمانية، نتيجة التحالف الغربي الذي قادته فرنسا وبريطانيا ضدّها، عُقدت معاهدة (سيفر) في ضاحية باريس في 10 آب 1920، والتي تخلّت بموجبها تركيا رغمًا عنها، عن كل الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، وعلى أثرها أعلن المندوب الفرنسي الجنرال غورو الساعة السادسة بعد ظهر الأوّل من أيلول عام 1920 ولادة «دولة لبنان الكبير»، على أن تكون هذه الدولة الوليدة تحت الانتداب الفرنسي، وازاحة كلّ ما يتعلّق من أثر للدولة العثمانية فيها.

أفرحت ولادة لبنان الكبير عام 1920 أكثرية المواطنين المسيحيين، الذين سعوا اليها، ورفضته أكثرية المسلمين من ابنائه، لأنّهم رأوا في انهيار الدولة العثمانية وفي الانتداب الفرنسي على بلادهم، سلخًا عن فضائهم العربي- والإسلامي الأوسع، ولحرص المسلمين وقياداتهم حينها، الانضمام الى الدولة العربية الكبرى التي اعلنها الشريف حسين الهاشمي، وبعدها الى سوريا الكبرى برئاسة الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي. ورفضوا بشدّة أن يكونوا أقليةً في دولةٍ صغيرةٍ يرونها جزءًا من أمّتهم، اقتطعت بقرارٍ دوليّ نتيجةً لهزيمة السلطنة العثمانية في معاركها الطويلة مع التحالف الفرنسي ـ الإنكليزي آنذاك.

استمرّ الانتداب الفرنسي على الدولة الوليدة من 1920 الى 1943، بعدما توافق اللبنانيون مسلمون، رغم تحفظهم، ومسيحيون، على عقدٍ اجتماعيّ بينهم، عُرف بالميثاق الوطني، ليعلنوا معًا استقلال دولة لبنان عن الانتداب الفرنسي وقيام الجمهورية اللبنانية مع نهاية عام 1943.

والسؤال: بعد مئة عام، هل استطاع اللبنانيون تحويل دولتهم وطناً؟ أم أنّ اعلان ولادة لبنان لا تزال في مرحلتها القيصرية والحضانة الخارجية، رغم انتخابهم 14 رئيسًا للجمهورية، بدءًا من شارل دباس عام 1926 وانتهاءً بميشال عون عام 2020، و27 حكومةٍ أولها عام 1926 برئاسة اوغست باشا اديب، وآخرها برئاسة سعد الحريري عام 2020.

من المؤسف والمحزن، انّ مشروع ولادة الدولة تمهيداً لبناء وطن سيّد حرّ مستقلّ، مُني بالفشل، لأنّ اللبنانيين عموماً وقياداتهم خصوصاً، لم يحسموا خياراتهم نحو بناء ثقافة المواطنة، والخروج من ارتباطاتهم وتحالفاتهم الاقليمية والدولية، وهم ما زالوا متوجسين خيفة بعضهم من بعض، وكل فئة تعيش عقدتها الاقلوية، رغم شعاراتهم الوطنية الفضفاضة، ونفاقهم السياسي المتراكم!!!

مئة عام على ولادة لبنان القيصرية، وما زالت الولادة هي هي، وما زالت كل فئة تبحث عن فضائها. ولئن كان لبنان عام 1920 منقسماً بين فضاءين عربي وغربي لا ثالث لهما، فإنّ اللبنانيين منقسمون الآن، وبعد مئة عام، الى ثمانية عشر فضاءً، بعدد طوائفهم ومذاهبهم، التي فشلت جميعها في الخروج من مستنقعاتها وانعزالها، الى رحاب الدولة الوطنية الجامعة التي يتساوى فيها المواطنون امام القانون وموجباته، لبناء السيادة والحرية والعدالة والاستقلال.

على مدى مئة عام حاولت بعض القيادات اللبنانية بناء دولة المواطنة، وهذا ما سعى اليها كل من اللواء الرئيس فؤاد شهاب والرئيس الشهيد رفيق الحريري. إلاّ انّ هذه المحاولات انتهت بانتهاء حكم كل منهما في زمانه، وعادت الدولة وقيادتها الى كهوفهم المذهبية والطائفية.

مئة عام من التجارب الفاشلة لبناء وطن، استطاعت فيها بعض الشعوب الأخرى والشقيقة ان تبني اوطانها، لا سيادة فيها ولا سلاح على ارضها الّا سيادتها وسلاحها. ولبنان الذي أراده البعض رسالة إنسانية، والبعض الآخر ملتقى للثقافات والحضارات، لم يتمكن من الانصهار الوطني والعيش الواحد، وبقي بعض أبنائه بخياراتهم الوطنية والعسكرية وحتى الأمنية خارج حدود الدولة اللبنانية، بل وحتى خارج امتهم العربية، التي انسلخوا او سلخهم عنها الانتداب الفرنسي مع بداية القرن الماضي.

حروب كثيرة خاضها اللبنانيون على ارضهم لمصلحة هذا الفضاء الخارجي او ذاك منذ عام 1958 وحتى الآن، أليست كافية للبنانيين لأن يوقفوا عبثهم ومراهقاتهم السياسية ومصالحهم الذاتية على حساب لبنان والاجيال القادمة؟ الم يحن الوقت للخروج من كهوفهم وخنادقهم، وبناء هذا الوطن الجريح الذي ما زال في مرحلة الولادة؟. أُنشئ الكيان الصهيوني عام 1948 على ارض فلسطين المحتلة، وإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وقيام الجمهورية عام 1943، فأين لبنان من الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين؟ وأين لبنان الدولة ومشروع الوطن من دول صديقة وشقيقة أُنشئت بعد ولادة لبنان بعشرات من السنين، وبعضها أُنشئ مع بداية السبعينيات من القرن الماضي.

اللبنانيون بكل شرائحهم يستحقون الحياة، وهم أهلاً لها، ويستحقون بناء وطن تسوده العدالة والحرية والمساواة، وحكم القانون. فمتى يُحسم الخيار نحو ثقافة المواطنة وقيام الدولة الوطنية الجامعة؟ ومتى الابتعاد عن دويلات المذاهب والطوائف والمناطق، التي شوهت رسالة لبنان ودوره الحضاري، في هذا الشرق العربيّ الحزين؟

انتفاضة 17 تشرين كانت إنذاراً للحكم ولكل الساسة والسياسيين، وأسلوب الحكم والحكومة. واستقالة الرئيس سعد الحريري في العام الماضي كانت استجابة لنداءات الناس، وخيراً فعل. فهل تكون حكومة الاختصاصيين المنتظرة برئاسته، هي الخطوة الأولى نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة والجامعة؟ ام انّ بعض القوى السياسية ما زالت تعيش أوهام المشاريع الإقليمية القادمة من خارج بلادنا وأمتنا العربية المحاصرة؟ أو في عالمها الافتراضي البعيد من آلام اللبنانيين وجوعهم وانتفاضتهم ومعاناتهم وبطالة وهجرة أبنائهم؟

مئة عام على الولادة القيصرية للدولة اللبنانية، أما آن لها ان تصبح وطنا سيداً حراً مستقلاً متعاوناً مع اشقائه العرب ومع أصدقائه في كل مكان؟ وعندها يفرح اللبنانيون بدولتهم وبوطنهم الرسالة الذي يريدونه، وطن الحرية والعدالة وكرامة الانسان.