IMLebanon

بين سويسرا الشرق وسويسرا الغرب.. كبش المحرقة

كتب جورج بشير في “الجمهورية”:

أربعة لو كان واحد منهم على قيد الحياة لكان جنّ جنونه مما يجري على هامش التلاعب السّياسي الكيدي ببنود قانون النقد والتسليف، خصوصًا ما يتعلّق بنظام السّرية المصرفيّة، الذي بات لبنان الدولة الوحيدة في العالم متمسّكًا به، كون هذا النظام كان له فضل في تكوين الثّقة الدّولية بقطاع لبنان المصرفي، كما يعود إلى هذا النظام فضل أكبر في حال النهضة الإقتصادية والإجتماعية الذي عاشه لبنان وقطاعاته الإنتاجية في هذا الجزء من العالم طيلة عقود، رغم الضربات التي سدّدتها في إتجاهه أنظمة الإقتصاد الموجّه ونظام الشّيوعية الدّولية في زمن الإتّحاد السّوفياتي وإسرائيل، بعد قيام دولتها في هذا الشّرق.

تمتّع لبنان بتسميته سويسرا الشّرق بفضل هذا النظام، ما دفع بالرئيس فؤاد شهاب في عهد وزارة الأربعة، إلى بناء مدماك يحمي هذا النظام، يرعاه ويصونه ويحصّن خطوات القيّمين عليه، لمنع أي إعتداء على نظام السّرية المصرفية من الهدّامين الذين يحلو لهم نسف الأنظمة وضرب نجاحاتها، فأنشأ مصرف لبنان المركزي، ليس حبًّا بأحد أركان وزارة الأربعة، العميد ريمون إدّه محامي هذا النظام، أو تقديرًا لشقيقه حامي النظام المذكور بيار إدّه رئيس جمعية مصارف لبنان فحسب، بل إيمانًا من الرئيس شهاب، الرئيس التاريخي للبنان، بالمبادرة الفردية وبنظام سرّية المصارف، الذي أدّى للإقتصاد الوطني المزدهر خدمات جلّى بمضاعفة إزدهاره. وكان الرئيس شهاب على تفاهم تام وواقعي مع كل من الشيخ بطرس الخوري، مؤسس الهيئات الإقتصادية في لبنان ورئيسها، والنائب جوزف شادر، رئيس لجنة المال والموازنة البرلمانية ومهندس السياسة المالية في لبنان لسنوات. ولقد هندس الرئيس شهاب العلاقة بين الأخوين الكتلويين من جهة، والمحامي الشاطر النائب جوزف شادر أحد أركان حزب الكتائب، بعيدًا من التجاذب الذي ساد علاقة الحزبين اللبنانيين التاريخيين.

كأنّ التاريخ يعيد نفسه في هذه الأيام، حيث يعمل بعض أهل النظام وحماته في ضرب معاول التّهديم بنظام السّرية المصرفية، لأسباب رئاسية، ومصرف مركزي يحاول القيّمون عليه المواجهة بمنع التّعدي على النظام الحرّ والحؤول دون تجاوزه وتجاوز أحكام قانون النقد والتسليف وسرّية المصارف، لأنّ القانون هو الفيصل بالنتيجة، حيث كان للجنة المال والموازنة ورئيسها والأعضاء دور فاعل ولا يزال في هذه المواجهة، التي أخذت ناصيتها في المقابل وزيرة العدل ماري كلود نجم، وكأنّها تشدّ من همّة أولئك الذين يفتّشون عن كبش المحرقة للأزمة الواقع فيها لبنان، بفعل تقصير وسوء تدبير وفساد وفشل معظم أركان الطاقم السياسي اللبناني، خصوصًا أولئك الذين تعاقبوا منذ ثلاثين سنة ونيف على السلطة في الحكم والحكومة والبرلمان.

لقد أحسن الذين صوّبوا المواجهة المشار إليها، بالعودة إلى قانون النقد والتسليف وأحكامه، خصوصًا منها، تلك المتعلقة بنظام السّرية المصرفية، ودعوة مجلس النواب للقيام بدوره التشريعي وإنقاذه ومنع تحويله إلى لعبة سياسية وأداة كيدية لإيجاد كبش محرقة، مطلوب أن يفدي كل أولئك الفاسدين الذين ضيّعوا المال العام والثروة الوطنية، بفعل فشلهم المريع في الحكم والحكومة والبرلمان طيلة السنوات الثلاثين الماضية.

البحث عن كبش محرقة، أو كبش فداء لهذه الأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان، هو إضاعة للوقت، لأنّ بديلها المطلوب، مساءلة ومحاسبة كل أولئك الذين أضاعوا الفرص على اللبنانيين للوصول إلى إستقرار سياسي وإلى إزدهار إجتماعي وبحبوحة، في ظلّ الشفافية، بدلًا من حال الفقر والعوز والهجرة والضياع التي يصارعها اللبنانيون منذ ما يقرب من السنتين. مساءلة ومحاسبة كل الفاسدين في وزارات وإدارات ومجالس الدولة، وهؤلاء معروفون يشار إليهم بالبنان، وأسماء معظمهم مدرجة في التقارير التي تغصّ بها أدراج هيئتا التفتيش المركزي والقضائي، ناهيك عن خزائن النيابة العامة المالية في قصر العدل.

كان ينقص لبنان تلك المشاحنة التي أطلقتها وزيرة العدل ماري كلود نجم، بالردّ عليها، وتعود لتردّ عليه، فيردّ عليها رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان، إلى جانب عدد من الأعضاء، ليكتمل النقل بالزعرور في الجدال الذي دار حول «منجزات» الوزيرة في قصور العدل والعدالة، وآخرها وضع التشكيلات القضائية على الرّف، ومنجزات لجنة المال والموازنة التي أسمتها الوزيرة «لجنة الإفلاس وإنعدام الموازنة».

المهم أن يعرف اللبنانيون مصير ثرواتهم التي تآكلت وذهبت في معظمها مع الرياح السياسية ومصالحها، وتقصير وسوء أداء الطاقم السياسي، مع أنّ مصير هذه الثروة الوطنية معروف تقريبًا، وأبطال عمليات الهدر والفساد معروفون بالأسماء التي يُشار إلى أصحابها بالبنان. ولا مجال لإضاعة البوصلة، التي تدل عليهم وعلى أدائهم وفساد معظمهم، تقارير التفتيش المركزي والقضائي والنيابة العامة المالية.

الدولة اللبنانية وقّعت بشخص وزير المال غازي وزني، عقدًا لإجراء ما أُسميَ بالتدقيق الجنائي، في ظلّ قرار متسرّع اتُخذ على أعلى المستويات الحاكمة مع شركة «ألفاريز مارشال»، كلّف الخزينة ملايين الدولارات من دون تدقيق أو دراسة متأنية لما تفرضه أحكام قانون النقد والتسليف، خصوصًا ما يتعلق منها بنظام السرية المصرفية، العمود الفقري لإزدهار القطاع المصرفي والوضع الإقتصادي اللبناني لعشرات السنين. ودوافع التسرّع معظمها جاء كيدياً متأثراً بالصراع المحتمل في المعركة الرئاسية المقبلة بعد أقل من سنتين. فوقعت الواقعة واضطر المعنيون الى تمديد المهلة ثلاثة أشهر لتعديل قانون النقد والتسليف في مجلس النواب، مع أنّ التدقيق الجنائي كان ولا يزال مطلوبًا في كل وزارات ودوائر ومجالس الدولة، وليس في مصرف لبنان فقط.

السؤال المطروح اليوم هو: ما سيكون عليه مصير نظام سرية المصارف، الذي يتّكئ عليه النظام الحرّ في لبنان «سويسرا الشرق»، لا سيما بعد تدمير ممنهج من القوى الدولية المعروفة لهذا النظام في سويسرا الغرب؟

عسى أن يكون لقاء قصر بعبدا بين الوزيرة ورئيس اللجنة البرلمانية، أزال الآثار المدمّرة للجدل الذي قام بينهما، كي يستعيد لبنان دوره، ولا يتحول نظامه الحرّ إلى كبش المحرقة المطلوب.