IMLebanon

قطاعات تعاني ووظائف تطير ومهن تنقرض

كتبت زيزي إسطفان في صحيفة “الراي” الكويتية:

 

سدّدت الأزمةُ الاقتصادية التي يعيشها لبنان ضربةً قاصمةً للكثير من القطاعات المهنية التي تشكل عصب الحياة الاقتصادية فيه وصولاً إلى «محو» بعض هذه القطاعات كلياً من الوجود وإخراجها من سوق العمل تاركة مصير أصحابها ومستقبلهم المهني في مهب الريح.

وقد زاد غياب هذه المهن أو احتجابها من ثِقْل الحِمْل الذي يرزح تحت وطأته اللبنانيون لاسيما أن عائلات كثيرة تعتاش منها ولم تجد حتى اليوم بدائل تؤمن لها مدخولاً يقيها شرّ العوز ويؤمن قوت أبنائها.

مهنٌ احتجبت وأخرى تراجعتْ، وكلها تنتظر بصيص أمل يعيد إليها العزّ الذي كان. في شوارع بيروت ومناطق لبنانية، نسأل عن أعمال ازدهرت سابقاً وما عدنا نراها اليوم.

كثيرة هي المهن التي تعاني في بيروت، وتشمل قطاعات مختلفة ونواحي حياتية كثيرة. وجاءت جائحة «كورونا» لتتوّج الصعوبات التي يعانيها القطاع الاقتصادي وتضع نقطة الختام لأعمال عرفت الازدهار في يوم ما وساهمتْ برسْم صورة مُشْرِقة عن لبنان. فأي هذه المهن كانت الأكثر تأثّراً وهل استطاع أصحابها تعويمها أو استبدالها مصالح أخرى بها؟

الأعمال تتراجع والموظفون يدفعون الثمن

شركات الفاليه باركينغ Valet Parking التي ازدهر سوقها مع فورة الحياة الليلية في لبنان ونهضة المطاعم والمقاهي حتى باتت مؤسسات كبرى تضم المئات من الشبان الموكلين تأمين مواقف للسيارات، تعاني اليوم بشدة نتيجة غياب الناس عن الحياة الاجتماعية وتجنُّبهم ارتياد المطاعم والأماكن العامة، باستثناء الحركة الموسمية لمناسبة الميلاد ورأس السنة.

ويقول عبدو جبر، وهو صاحب إحدى هذه الشركات، إن الشغل اليوم تراجع بنسبة 80 في المئة أو أكثر، والشركات استغنت عن النسبة ذاتها من موظفيها وغالبيتهم من فئة الشباب.

تتعدّد أسباب غياب هذا القطاع وأبرزها جائحة «كورونا» وقفْل عدد كبير من المطاعم والملاهي أبوابه أو تراجُع عدد رواده بسبب الضائقة المالية من جهة والانفجار في مرفأ بيروت من جهة أخرى. كما سبّب غياب عدّادات الوقوف عن الطرق فوضى في أسلوب ركن السيارات جَعَلَ الكثيرين يستغنون عن خدمات الفاليه باركينغ.

وفي عالم السيارات أيضاً ثمة قطاع يعاني بشدة هو شركات تأجير السيارات. وكان هذا القطاع شهد أيام عزّ كبيرة مع ازدهار السياحة في لبنان ومواسم عودة المغتربين كل عام، وعرف استثمارات واسعة في السيارات الجديدة كما حقّق أرباحاً عالية. لكنه اليوم شبه عاطل عن العمل ويعاني أزمة حادة نتيجة الغياب الكلي للسياحة وتَرَدُّد المغتربين في العودة الى لبنان.

ويتحمل هذا القطاع وزر المدفوعات المالية التي تتوجب عليه كل عام رغم توقفه عن العمل ومنها كما يقول السيد جورج اوبا صاحب شركة صغيرة لتأجير السيارات دفْع رسوم الميكانيك السنوية على السيارات وإيفاء قسوطات الجديدة منها في المصارف أو دفع كلفة شحن السيارات الموصى عليها من الخارج وما سوى ذلك من أكلاف باهظة في ظل غياب تام للمردود ساهم بجعْل عدد كبير من الشبان بلا عمل.

مكاتب استقدام العاملات الأجنبيات من الخارج تشهد بدورها أزمة كبرى بعدما كادت كلفة استقدام العاملة الواحدة الى لبنان تصل الى عشرة ملايين ليرة لبنانية. ويقول السيد عدنان سكينة صاحب أحد هذه المكاتب وأمين سر النقابة سابقاً إن وضْع هذا القطاع اليوم مزرٍ الى حد كبير و80 في المئة من المكاتب الشرعية أقفلت أبوابها وهو شخصياً أغلق مكتبه حتى إشعار آخَر وصَرَفَ موظفيه مثل كل المكاتب الأخرى.

أزمة الدولار هي السبب الأول لارتفاع تكلفة استقدام العاملة الأجنبية، وإليها يضاف منْع الكثير من الدول رعاياها من السفر إلى لبنان ووضْع قيود صارمة على قدومهنّ ما جعل العملية برمّتها صعبة جداً. وزاد على ذلك قلّة الطلب على العاملات نتيجة وجوب منحنهنّ أجورهن بالدولار ما يرتّب عبئاً كبيراً على أرباب عملهن من العائلات اللبنانية.

وتطول لائحة الأعمال التي باتت خارج التداول، بعضها يعاني الأزمة نفسها كما في كل أنحاء العالم نتيجة «كورونا»، وبعضها الآخَر تتأتى «مصيبته» من الأزمات المتعددة التي تقبض على لبنان. وإذا كان قطاع مكاتب السفر تأثّر عبر العالم بسبب توقف حركة السفر والمطارات، إلا إن انتكاسته في لبنان اتخذت طابعاً أقسى مع عدم قدرة اللبنانيين رغم معاودة فتح المطار على تأمين الدولار المطلوب لحجز تذاكر السفر، كما بسبب المنافسة الشديدة القائمة بين شركات الطيران ومكاتب السفر ما أدى الى تراجع أعمال الأخيرة بشكل صادم تسبّب بإقفال العدد الأكبر منها وصرْف موظفيها.

غياب المهن السياحية

وإذا أَرَدْنا الحديث عن تأثُّر مجمل القطاع السياحي بأزمات لبنان، سنحتاج بلا شك إلى صفحات وإلى تقارير لا تنتهي. ومع الموت السريري لهذا القطاع، ماتت معه الكثير من المهن والوظائف التي لا يكاد يذكرها أحد.

فوظيفة المُرْشِد السياحي انتهت بشكل علني: لا سواح ولا جولات سياحية وليس في الأفق ما ينبئ بعودة قريبة للسياحة الى لبنان إذا استمرّ وضعُه السياسي المتردي والإنذارات بتدهور الوضع الأمني فيه. ومع غياب السياحة تغيب عن الطرق والمواقع الاثرية والسياحية الباصاتُ وسائقوها، هي التي كانت تشكل قطاعاً قائماً في ذاته تستفيد من رحلاتها اليومية مئات العائلات.

وإذا شئنا الاستمرار في تعداد الوظائف الغائبة عن القطاعيْن السياحي والترفيهي في لبنان، تخطر ببالنا عشرات الوظائف. وقد أعلن رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان طوني الرامي، في بيان، أن عدد الإقفالات الذي وصلت إليه المؤسسات التي تتعاطى الطعام والشراب ناهز الـ 785 مؤسسة من الفترة الممتدة من الأول من أيلول 2019 حتى الأول من شباط 2020″، ويرجح ان يكون العدد قد ارتفع بشكل ملحوظ إثر انفجار المرفأ، فيما فاق عدد الموظفين المصروفين من عملهم قبل الانفجار 25 الفاً ولا شك أن العدد ارتفع بعده. وإليهم يضاف موظفو الفنادق على اختلاف اختصاصاتهم والعاملون في قطاع السهر.

فقطاع السهر واللهو كان من بين الأكثر تضرراً في لبنان نتيجة الأزمات وبسبب تردي الحالة النفسية للبنانيين الذين صارت اهتماماتهم في مكان آخَر، وباتوا في غالبيتهم الساحقة يلهثون وراء لقمة العيش ويُبَلْسِمون جراحهم المختلفة، ولم يعُد السهر هاجسهم كما كان في السابق.

ومن بين العاملين الذي هجروا عالم السهر وفقدوا وظائفهم يمكن أن نعدد عازفي الموسيقى ومغني One Man Show و الـ DJأو مشغّلي الموسيقى وسواهم. ويخبر طوني كيانيان، وهو عازف إيقاع، أنه لم يُطلب الى حفلة واحدة منذ شهر تشرين الأول 2019 وقد بات على الحضيض ينتظر فرصة للسفر الى الخارج في ظل غياب تام لأي نشاط غنائي أو موسيقي في لبنان للفنانين الذين كان يَعزف في حفلاتهم.

أما مروان وهو «دي جي» شاب يعتمد على موسم الصيف للقيام بعروضه الموسيقية فقد تبين له أن الموسم «مضروب»، والناس هجروا السهر إلا قلة قليلة من جيل الشباب الذين لا يستطيعون بغالبيتهم تحمل تكاليف السهرات المرتفعة ويبحثون عن تسلية زهيدة لا ترهق ميزانياتهم المرهقة أصلاً.

الباعة يئنون

في القطاع التجاري، الأمر مُشابِه، والوظائف تكاد تكون معدومة. وقد يبدو مفاجئاً لمَن يتجوّل في الشوارع التجارية والأسواق عدد المحال التي أقفلت أبوابها نتيجة تَراجُع البيع الناجم عن تقهقر القدرة الشرائية للمواطنين من جهة وعدم قدرة التجار على استيراد البضائع من الخارج.

وثمة متاجر محددة غابت بشكل شبه كلي من الأسواق مثل تلك التي تبيع المكسرات والفاكهة المجففة والتي كان يملكها بغالبيتها سوريون مقيمون في لبنان. ويعود سبب إقفال هذه المحلات الى الارتفاع الكبير في أسعار المكسرات لاسيما الصنوبر واللوز والجوز والفستق الحلبي بحيث بات اللبناني غير قادر على شرائها بكميات كبيرة كما كان يفعل من قبل. يضاف الى ذلك غلاء كلفة إيجار المحلات ما دفع بأصحابها الى إقفالها والتخلي عن هذه المهنة وصرْف العمال والبائعين.

غياب الوظائف واندثار بعض المهن في لبنان لا يقتصر على ما ذُكر سابقاً. ولو أَرَدْنا الغوص أكثر في الواقع اللبناني لَرأينا أن بنيته قد تغيّرت بشكلٍ كبير فغابت تقاليد عرفها سابقاً لتحلّ مكانها مهن مستجدّة فرَضَها الأمرُ الواقع وعسى أن تستوعب «منبوذي» الوظائف البائدة.