IMLebanon

القانون الدولي وأسس الترسيم البحري وأحقية لبنان في الخط 29

كتب الدكتور شربل السكاف في جريدة النهار:

خلال عقود طويلة إقتصر الدور الاقتصادي للبحار والمحيطات على المواصلات والصيد. بعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تطور مفهوم استغلال موارد الطاقة البحرية بالتوازي مع التطور العلمي والبحثي كما التقنيات الحديثة التي اوجدت الأدوات اللازمة لتعطي الدور الاقتصادي للبحار شمولية أوسع. من هنا أخذ قانون البحار المطبق على حركة السفن والبضائع والاشخاص ابعاداً جديدة لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الدول ذات الواجهة البحرية، حيث اصبحت هذه الحقوق مطالب وطنية سيادية. وكان تأثير الدول الساحلية على القانون الدولي منذ عام 1940 يشمل مطالب توسيع حدود مناطقها البحرية حيث تحدث الرئيس الأميركي ترومان عن الجرف القاري الأميركي منذ عام 1945.

تحت اشراف عصبة الامم عام 1930، جرت المحاولات الاولى لكتابة قانون دولي للبحار في لاهاي حيث أدت هذه الاعمال الى تحضير 13 مسودة ستشكل نواة المعاهدات اللاحقة. في عام 1956، قدمت  لجنة القانون الدولي التابعة للامم المتحدة (Commission du droit international de l’ONU) تقريراً نهائياً للجمعية العامة للاأمم المتحدة حيث اصبح هذا التقرير أساساً لمؤتمر جنيف الذي عقد عام 1958 لمراجعة قانون البحار آخذاً بعين الاعتبار الجوانب القانونية والتقنية والاقتصادية والسياسية حيث افضى المؤتمر الى بلورة اتفاقية دولية. توالت المحاولات لتطوير اتفاقية جنيف وكان أبرزها في عام 1974 اذ أفضت الى التوقيع لاحقاً على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في مونتيغوباي في جامايكا عام 1982 من قبل 162 دولة والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 1994. تتألف اتفاقية مونتغوباي من 320 مادة و9 ملاحق تحدد فيها المناطق التي تتمتع بالسيادة من الساحل إلى أعالي البحار. أما هذه المناطق فهي: المياه الإقليمية، المنطقة المتاخمة، المنطقة الاقتصادية الخالصة، الجرف القاري والمياه والدولية. لقد أرست اتفاقية مونتيغوباي الاطار القانوني العام الذي يرعى انشاء وترسيم المناطق البحرية حيث تحدد كل منطقة انطلاقاً من خط الأساس وهي تتمتع بنظام خاص تنص عليه الاتفاقية.

انطلاقاً مما سبق لا يمكن ترسيم الحدود البحرية من دون الاستناد الى مرجعية القانون الدولي واتفاقية مونتيغوباي. أما لبنان، فقد اعتمد مقاربة مترددة في عام 2011 بعد تعديله النقطة الثلاثية 1 حيث اعتمد النقطة 23، مع العلم أن الدولة يمكنها أن تطور آلياتها في الترسيم الذي يحتاج الى تحديد خط اساس ونقطة ارتكاز برية. ولكن بخلاف ذلك، إعتمد لبنان عند ترسيم الخط 23 نقطة انطلاق بحرية داخل المياه الاقليمية بعيدة امتاراً عدة عن الساحل بدل اعتماد نقطة انطلاق برية (آخر نقطة برية على الحدود الدولية تلتقي مع المياه) كما هو متعارف عليه قانوناً. يعتبر بديهياً أن نقطة الانطلاق تثبت في المياه في حال لم تكن معالم الحدود الدولية واضحة ومتغيرة نتيجة المد والجزر أو تبدل معالم الارض أو كمصب نهر كما هو حال النقطة البحرية التي اعتمدت بين أميركا والمكسيك. بناء عليه، فإن الخط 23 هو خط هجين (Hybride) ينطلق من النقطة البحرية الاقرب الى الساحل معتمداً خط الوسط مع احتساب تأثير كلي لجزيرة “تخلت” الإسرائيلية يصل لحدود 12 ميلاً بحرياً ثم يكمل في شكل اعتباطي، فهو ليس بخط وسطي ولا عمودي، ليصل الى النقطة 23 في سابقة لا تستند الى أي مسوغ قانوني. والمفارقة أن الخط 23 إستند الى نقطة غير متساوية الابعاد بين سواحل لبنان وإسرائيل وقبرص ما يجعله غير متماسك تقنياً، وبذلك لا يمكن الدفاع عنه قانونياً، بحيث يعتبر اقرار ضمني بخط هوف الاقرب اليه شمالاً.

أما الخط 29 الذي يطالب به لبنان حالياً فهو خط ليس بجديد. إذ يستند اساساً الى تقرير المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO عام 2011 (أعطى لبنان 1350 كلم2 تضاف الى 860 كلم2) والدراسة المحدثة التي أعدتها قيادة الجيش اللبناني عام 2019 نتيجة للمسح الذي أجرته في عام 2018. فالخط يستند صراحة الى القانون الدولي وقانون البحار والاعراف الدولية خاصة في ما يتعلق بالجزر. ولقد اعتمد نقطة الانطلاق البري رأس الناقورة استناداً الى اتفاق بولي – نيو كومب (1923) واتفاق الهدنة 1949. مع العلم ان الجانب الإسرائيلي أزاح نقطة رأس الناقورة والنقطة B1 امتاراً عدة شمالاً ليقلل من مساحة لبنان البحرية ويحيد بالتالي المنتجع السياحي الإسرائيلي المقام على رأس الناقورة والمعروف بـ”روش هانيكرا” (Rosh Hanikra). تقنياً يعتبر الخط 29 خط وسطي بحت من دون احتساب جزر الساحل الإسرائيلي خصوصاً جزيرة “تخلت”. وهو منسجم تماماً مع القانون والاعراف الدولية وأظهر أن احتساب وزن لجزيرة “تخلت” لديه أثر غير تناسبي (Effet Disproportionel) لناحية خسارة لبنان 1800 كلم2 من منطقته البحرية.

لقد حقق لبنان من خلال طرح الخط 29 عدة مكاسب تتعلق بتحسين شروطه التفاوضية واعتماد رأس الناقورة كنقطة انطلاق برية في الترسيم مصححاً الاخطاء السابقة ما مكنه من ربح الجولة الاولى من المفاوضات واعطاه تفوقاً تقنياً وعلمياً واضحاً في حرب الخطوط نتج عنه إرباك الوفد الإسرائيلي المفاوض. الامر الذي يحتم اصدار مرسوم جديد يعدل المرسوم 6433 يتضمن المساحة التي يحق للبنان فيها جنوب النقطة 23 ليصار بعدها الى ابلاغ الامم المتحدة به.

أما الخط الإسرائيلي 310 الذي هول به، فهو لم يطرح اطلاقاً خلال المفاوضات. بل ظهر للمرة الأولى في الاعلام الإسرائيلي في السابع من تشرين الثاني الماضي على تويتر موقع “اسرائيل هايوم” كردة فعل اعلامية بعد عرض لبنان الخط 29 خلال المفاوضات مظهراً الارباك الإسرائيلي. فرد لبنان في التاسع منه بطرح خط امتداد الحدود البرية أو خط العرض 270 وهي خطوط تطال حقول تامار وتانين ولوفاتيان الإسرائيلية. وجاء الرد الإسرائيلي على لسان سفير إسرائيل السابق في مصر إسحاق ليفانون الذي كتب في جريدة جيروزالم بوست في مساء اليوم نفسه أن إسرائيل تخطئ اذا لوحت بالخط 310 وجرّت لبنان الى تصعيد في مطالبه، متبرئاً من تداعيات الخط ومطالباً بالتمسك بالمفاوضات على الاسس السابقة. وكانت هذه المرة الوحيدة التي ذكر فيها هذا الخط “الاعلامي” مع العلم انه لا يستند إلى اي اساس قانوني اطلاقاً.

أما بخصوص خط هوف، فلقد قام بترسيمه راي ميلفسكي وهو كان قد شغل منصب كبير المتخصصين في شؤون ترسيم الحدود في مكتب الجغرافيا التابع لوزارة الخارجية الاميركية من عام 2000 الى عام 2014. من الناحية التقنية اعتمد الخط نقطة انطلاق 3 أميال داخل البحر متجاهلاً رأس الناقورة ومعطياً تأثيراً كاملاً لجزيرة “تخلت”، ما يعني انه قضم من المساحة التي يحق للبنان فيها قانوناً.

تبقى الخطوط والقانون الدولي رهن العامل السيادي اللبناني الذي إن أحسن استعماله سيؤمن مصلحة الدولة العليا ويسقط الحجج التي عرقلت ملف الترسيم منذ عام 2011 ولتاريخه.