IMLebanon

من يربح “الرهان”؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

رهانان يتنازعان بعض القوى السياسية: الرهان الأول أبطاله قوى 8 آذار، والرهان الآخر بعض القوى المناهضة لهذا الفريق.

يراهن فريق 8 آذار والعهد تحديداً، على تبدُّل السياسة الأميركية مع تبدُّل الإدارة الأميركية، وهذا الرهان في لبنان لا ينفصل عن الرهان الأكبر منه على مستوى المنطقة، حيث واجه هذا الفريق الأمرين مع الإدارة السابقة التي وصفها «بالمجنونة»، وتحوّل هو معها إلى الطرف العاقل، على رغم سياساته المتهورة وتحويله المنطقة إلى ساحات مفتوحة على حروب متواصلة.

وعلى رغم العداوة بين هذا الفريق و»الشيطان الأكبر» حسب وصفه، إلّا انّه يدرك ضمناً قدراته، ويعرف انّه من دون التفاهم مع واشنطن او غضّ نظرها بالحدّ الأدنى، سيبقى محاصراً ومكبلّاً ودوره على المحك، على غرار ما كان عليه إبّان سنوات إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهو يأمل اليوم ان تعود عقارب الساعة إلى ما كانت عليه إباّن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.

وما ينطبق على المنطقة ينسحب على لبنان، الذي شهد تشدّداً دولياً كبيراً، لجهة رفض مدّ لبنان بأي مساعدة، سوى في حال التزامه بأجندة إصلاحية واضحة المعالم، والعقوبات الأميركية تشكّل جزءاً صغيراً من هذه السياسة، خلافاً لما يحاول البعض تصويره، حيث انّ العقوبات طالت «حزب الله» وبعض المسؤولين اللبنانيين، فيما التشدُّد هو مع لبنان الدولة وسياساتها العشوائية التي ساهمت في توسيع مساحة ورقعة الدويلة، وأدّت إلى الانهيار القائم.

فهناك من يراهن ويأمل بأن يُفتح باب المساعدات مجدّداً من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بالمقابل، باعتبار انّ الإصلاحات تؤدي إلى حصاره وتقليص دوره وتراجع نفوذه، وهذا ما يفسِّر عدم إقدامه عليها حتى الساعة على رغم مأسوية الواقع اللبناني، فهو يريد ان يبقى القديم على قِدَمه، وان ينتعش الوضع ولو نسبياً، بما يجنِّبه الضغوط الشعبية ويُبقيه متربعاً في مواقعه السلطوية من دون ان يُقدم على أي إصلاح يُذكر.

ويرى هذا الفريق، انّ الإدارة الأميركية الجديدة ستنتقل من التشدّد إلى الليونة، ويراهن على الدور الفرنسي الذي سيحظى باعتقاده بضوء أخضر أميركي مع الإدارة الجديدة، خصوصاً انّ أوساطه تعتبر بأنّ هذا الدور اختبر بشكل عملي على الساحة اللبنانية، إذ على رغم تحميل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الفريق مسؤولية إجهاض المبادرة الفرنسية، إلّا انّه لم يذهب إلى التشدّد ولا إلى سحب المبادرة، كما انّه حرص دائماً على التمييز بين النظرة الخارجية لـ»حزب الله» ودوره، وبين كون الحزب جزءاً من المشهدية السياسية اللبنانية، باعتباره فريقاً منتخباً وموجوداً في الندوة البرلمانية، وهذا ما دفعه إلى دعوته إلى «قصر الصنوبر» ومحاورته.

ومن هذا المنطلق، يراهن على مزيد من الشيء نفسه فرنسياً، وأكثر ما استوقفه في هذا الإطار، الرسالة التي حرصت الرئاسة الفرنسية على توجيهها عن طريق أحد المسؤولين فيها، وهو بالمناسبة من الملمين جداً في الشأن اللبناني، والذي قال: «لا نتوقع تغييراً في الموقف الاميركي حيال «حزب الله»، ولكننا ننتظر مزيداً من الواقعية من جانب الولايات المتحدة حيال ما هو ممكن او غير ممكن القيام به في لبنان، نظراً للظروف الحالية في هذا البلد».

فهذا الموقف بالنسبة لهذا الفريق، والذي جاء على إثر المكالمة الطويلة بين الرئيسين بايدن وماكرون، أكثر من كافٍ لإعادة ملاقاة باريس في مبادرتها، والاتكاء عليها، بتبريد الموقف الأميركي وتحويله أكثر واقعية، والواقعية وفق هذا المفهوم تعني التسليم بالواقع او الستاتيكو الحالي.

ولذلك، لا يجب استبعاد ان تتشكّل الحكومة، ليس فقط من باب توظيف الإحتجاجات العفوية الناتجة من سوء الأوضاع المعيشية، من أجل الضغط لتسريع إصدار مراسيم التأليف، إنما من باب تقديم «وردة» للإدارة الفرنسية على قاعدة الخدمات المتبادلة والمقايضات، فتكون الحكومة دفعة على الحساب، او خطوة تسليفية، أي ان يسلّف هذا الفريق باريس مقابل خدمات لاحقة، مراهناً على رهان فرنسا على دورها في لبنان كمدخل لدورها في المنطقة، باعتباره المساحة الوحيدة الذي يمكن لباريس ان يكون لها فيها موطئ قدم.

وكل ما يصبو إليه هذا الفريق، ان تنسحب عدوى الواقعية الفرنسية على الأميركيين، فيعيش في نعيم مواصلة الإمساك بزمام السلطة ومفاصلها في لبنان، وهو بمعزل عن التفاهم الأميركي-الإيراني من عدمه، يعمل على مدّ خطوطه مع الأميركيين في ملف الترسيم، كملف جاهز للمقايضة عندما تصبح واشنطن جاهزة، ومع الفرنسيين، بالإقرار بدورهم في لبنان وتسهيل هذا الدور، مقابل تسليمهم بدور الحزب ونفوذه ومصالحه.

وأما الفريق الآخر المعارض بخجل لفريق 8 آذار، وما زال يتقاسم السلطة معه، فيراهن على استمرار التشدّد الأميركي مع الإدارة الجديدة، بما يمكِّنه من تحسين مواقعه السلطوية بالحدّ الأدنى، وان يكون في موقع القرار في حال قرّرت واشنطن الذهاب إلى تسوية مع طهران، وإعادة تشكيل الوضع اللبناني بالحدّ الأقصى.

ويستبعد هذا الفريق ان تتراجع أميركا عن السياسة التي اتبعتها في الشرق الأوسط، وأدّت إلى تقدُّم حليفيها إسرائيل والخليجيين بالنقاط الاستراتيجية على المشروع الإيراني، ولن تكون في موقع الذي يُجهض أو يفرِّط ويبدِّد ما تحقق على هذا المستوى الاستراتيجي للمرة الأولى ومنذ زمن بعيد، وبالتالي الرهان ان تواصل واشنطن المزيد من الشيء نفسه وصولاً إلى دفع طهران من تلقاء نفسها إلى طاولة المفاوضات، بعدما يكون الحصار قد أطبق عليها من كل حدب وصوب، ولم يعد أمامها سوى خيار الحوار والتفاوض.

ويعتبر هذا الفريق، انّه في الوقت المستقطع الذي تكون الإدارة الأميركية في صدد إعداد ملفاتها المتعلقة بالمنطقة ومن ضمنها لبنان، لا يجب الإنزلاق إلى موقع المواجهة والصدام مع الفريق الآخر، لأنّ الأمور استوت دولياً وإقليمياً، ولا حاجة لنقل المواجهة إلى الداخل اللبناني، خصوصاً انّ غياب الخيارات أمام إيران سيدفعها عاجلاً أم آجلاً إلى البحث عن التسوية المطلوبة، وفي هذا الوقت يجب ان يكون لبنان في موقع المنتظر والمبرِّد سياسياً، على قاعدة انّ التغيير يأتي من الخارج، وانتظرنا الكثير ولم يبق سوى القليل.

ولكن بين رهان فريق على الخارج ليبقى في السلطة ويُبقي الوضع في لبنان على ما هو عليه، اي ساحة نفوذ متقدِّمة لطهران، وبين رهان فريق آخر على الخارج لتحسين أوضاع لبنان، من دون ان يكون له أي دور لملاقاة هذا الخارج برؤية لبنانية ووجهة نظر موحّدة، فإنّ الفريق الأول يتقدّم بالنقاط على الفريق الثاني، كونه في الموقع الانتظاري، فيما الفريق الأول في موقع المقايض لما بحوزته من أوراق قوة.

وفي موازاة هذا الفريق وذاك، هناك من يقول انّ مسؤولية الانهيار يتحملّها الفريق الحاكم، وانّ الرهان الوحيد يجب ان يكون على إرادة الناس وصندوقة الاقتراع، وفي حال عدم الاتفاق على هذا العنوان، فهو منفتح على نقاش كل العناوين الأخرى، ولكن سيتعذر تحقيق اي عنوان، في حال استمرت الشرذمة الحالية، وانّ الإنقاذ مستحيل من دون وحدة موقف وصفّ، كما انّ الإنقاذ لا يكون عن طريق هذه الدولة او تلك، فلا أحد أدرى بالقضية اللبنانية من أصحابها على قاعدة «أهل مكة أدرى بشعابها»، فيما جلّ ما هو مطلوب من المجتمع الدولي دعم سيادة لبنان واستقلاله، وهذه السيادة المفقودة منذ عقود لن تتحقق سوى بإرادة الناس التواقة إلى العيش الكريم والآمن، وما لم تنوجد هذه الإرادة، فكل أساطيل العالم غير قادرة على إحياء مشروع الدولة في لبنان. فهل من يلاقي «القوات اللبنانية»؟