IMLebanon

“الحزب” والإعلام اللبناني… المواجهة الحتمية

كتب حسين طليس في “الحرة”:

أقفل العام 2020 على سابقة لم يشهدها لبنان في ما مضى، أقدم فيها حزب الله ولأول مرة في تاريخه على اتخاذ صفة الادعاء الشخصي أمام القضاء اللبناني على شخصيات ومواقع إعلامية حملته مسؤولية انفجار مرفأ بيروت. رأى البعض في تلك الخطوة تقدماً في خضوع الحزب لمؤسسات الدولة واتخاذ القضاء حكماً بدل الشارع وتهديد السلاح، فيما اعتبر آخرون أن الحزب يطوع القضاء سلاحاً في وجه خصومه بعد سيطرته على مفاصل الدولة اللبنانية وتحكمه بسلطاتها.

سرعان ما عاد الحزب على لسان أمينه العام حسن نصر الله إلى لغة التهديد والوعيد مطلع العام في بث مباشر له، هدد فيه الوسائل الإعلامية التي تحمل حزب الله مسؤولية انفجار المرفأ وتتهمه بتجارة المخدرات وتشن “الحملات المدفوعة”. وتوجه للوسائل الإعلامية بالقول “أنتم تعتدون علينا وعلى كراماتنا… ولا يجوز أن يكمل الموضوع بهذه الطريقة.. هذا الموضوع إذا كان القضاء يعالجه فليعالجه وإذا كان المجلس الوطني للإعلام يعالجه فليعالجه وإذا مطلوب من الناس أن تعالجه بتظاهرات أو باعتصام فقد يأتي يوم للمعالجة.. هذا أمر لم يعد يحسن السكوت عليه على الإطلاق.”

شهد لبنان واقعة اغتيال الناشط السياسي والباحث لقمان سليم، المعروف بمعارضته الشرسة لحزب الله، توجهت أصابع الاتهام في عدد من الوسائل الإعلامية إلى حزب الله مجدداً، لاسيما وأن سليم كان قد حمل مسؤولية سلامته الشخصية لشخص أمين عام حزب الله حسن نصر الله في بيان إعلامي وزعه عقب تهديده واقتحام منزله من قبل أنصار حزب الله ولصق منشورات على جدران المنزل تدعو إلى قتله.

مذكرة جلب لتوبيخ الإعلام!

لم يتقبل الحزب خروج تلك الاتهامات، وأطلق حملات إعلامية في الصحف والقنوات المحسوبة عليه ومعها الجيوش الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي لتهاجم وتخون وتتوعد الوسائل الإعلامية والإعلاميين، وعاد نصر الله مجدداً وفي بث مباشر آخر ليحرض على الإعلام ويتهمه ببث الفتن وتهديد السلم الأهلي.

وكما سبق أن طلب نصرالله حصل، تدخل المجلس الوطني للإعلام بعد طول غياب عن القضايا والتهديدات التي يعانيها القطاع ودخل في سجال مع القنوات والإعلاميين الذين وجهوا اتهامات لحزب الله، وبعد يوم واحد من كلام نصرالله الأخير، في 17 شباط الجاري، استدعت لجنة الإعلام والاتصالات النيابية في لبنان ممثلي وسائل الإعلام المحلية، في جلسة كانت أشبه بـ “مذكرة جلب لتوبيخ المؤسسات الإعلامية على هامش الحرية الذي انتهجته مؤخراً” بحسب ما يصفها المسؤول الإعلامي في مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية في مؤسسة سمير قصير “سكايز” جاد شحرور.

لم تمر الجلسة الثالثة على خير، كما حصل في التجربتين السابقتين عام 2018 وبعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020. الثالثة جاءت ثابتة على اللجنة النيابية، ثابتة من حيث تأثرها بمزاج حزب الله وأهوائه في فرض رقابته ومعاييره على الوسائل الإعلامية، لاسيما بعد تحميله مسؤولية الاغتيال من جهات إعلامية عدة.

وهذا ما عبر عنه بوضوح ممثلو الوسائل الإعلامية في تصريحاتهم بعد الجلسة، ولم يجهد في إخفائه رئيس اللجنة، النائب عن حزب الله حسين الحاج حسن، خلال مؤتمره الصحفي بعد الجلسة، حيث برر قطع بث القنوات المحلية المعارضة لحزب الله في مناطق نفوذه، مقدماً مطالعات عن دور اللجنة النيابية الرقابي على الإعلام من أجل تبرير محاولة التدخل بالمحتوى الإعلامي لتحقيق مصلحة حزب الله في ضبط الانتقادات الإعلامية التي تطاله تحت مسميات فضفاضة كـ “حماية السلم الأهلي من المحتوى الفتنوي والتحريض الطائفي” وهي مسميات يمكن تطويعها لتشمل أي مادة إعلامية تخالف مزاج اللجنة ومن خلفها أحزاب السلطة.

تلويح بسجن الصحفيين!

وبالحديث عن التطويع، شهدت جلسة المناقشة مع اللجنة النيابية محاولة لتطويع القانون في خدمة مآرب السلطة وأحزابها، كان بطلها من الجسم القضائي بحسب ما تكشف وزيرة الإعلام اللبنانية منال عبد الصمد في اتصال مع موقع “الحرة”، حيث من ضمن المدعوين إلى الجلسة كان ممثل عن النيابة العامة التمييزية، القاضي صبوح سليمان، الذي فاجأ الجميع ومن بينهم الوزيرة بطرحه خلال النقاش إعادة العمل بالتوقيف الاحتياطي للصحفيين الذي سبق ان أوقف العمل به بحجة ازدياد “التجاوزات الحاصلة”.

“هذه نقطة فاجأتني”، تقول الوزيرة، “وقمت بالرد عليه أننا كنا وصلنا إلى مرحلة نناقش فيها رفع العقوبات الجزائية عن الصحفيين ونحضر قانوناً جديداً للإعلام بنسخة عصرية تلغي العقوبة السجنية، وتستبدل عبارة جرائم الإعلام بعبارة أفعال الإعلام، لأن صاحب الكلمة ليس مجرما، وتحصر الأحكام بغرامات مالية، اليوم نعود بالقوانين إلى الوراء؟ هذا غير مقبول.”

وتضيف الوزيرة انها تفاجأت أيضاً بتحول الجلسة من التداول بدور الإعلام والصعوبات التي يواجهها إلى التداول ببعض التجاوزات والتفاصيل التي حصلت مؤخراً. مؤكدة رفضها “اتهام وسائل الإعلام بالتسبب بالفوضى والتأثير سلبا بالرأي العام، الفوضى الراهنة مصدرها واقع مرير نعيشه، والإعلام مجرد مرآة مصغرة عنه تنعكس عليه الأجواء المشحونة ولغة تخاطبها المستمدة أصلا من قاموس الهجاء السياسي اللبناني، ومن يريد إصلاح الواقع لا يكسر المرآة، وإنما يعالج الشوائب التي تنعكس فيها”.

المواجهة الحتمية

تقول نائبة رئيس مجلس إدارة قناة الجديد لدى مغادرتها جلسة اللجنة في تصريح إعلامي “تمت دعوتنا الى لجنة الاعلام مرتين خلال سنة، وفي المرتين كان الموضوع يتعلق إما بحزب الله أو بأمر يتعلق بأمر حصل مع شارعه”، مضيفة ” إذا كان الغرض منها تسيير شؤون حزب الله لا مشكلة فلنجلس مع الحزب ونناقش معه”.

كل ما سبق يفضي إلى حتمية واحدة، طالما أن الإعلام اللبناني، ولا سيما المستقل منه، يخوض معركة ضد فساد السلطة اللبنانية وأحزابها، سيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع حزب الله الذي يمثل أحد أبرز أركانها ويهدد الإعلام بكل ما يملكه من قدرات ونفوذ.

يرى المتحدث باسم نقابة الصحافة البديلة في لبنان، أسعد سمور، في حديثه مع موقع “الحرة” أن “كل الأطراف السياسية وحزب الله ضمنا لديهم مصالح مشتركة بكتم حرية الرأي والإعلام، فكلهم لديهم ملفات من شأن إثارتها أن يهددهم، ويهدد المعادلة التي تجمعهم منذ زمن “الفساد مقابل الفلتان الأمني”.

ويضيف أن “لجنة الاعلام التي تضم ممثلين عن كل الأحزاب السياسية استدعت الاعلام بهذا الشكل لتظهر أن النظام الحاكم بكامله متضرر من السياسات الإعلامية التي تثير قضايا فسادهم كمتابعة انفجار المرفأ وفضائح الطحين واللقاحات وجرائم الاغتيال، كل ذلك هم مسؤولون عنه، لهذا السبب يريدون التضييق على الاعلام لمعاقبته.”

ويضيف سمور “أن حملة على حرية الرأي والتعبير نشهدها منذ ما قبل استدعاء اللجنة النيابية للوزراء، ما قبل الثورة وخلالها وبعدها بالاستدعاءات الأمنية للصحفيين والناشطين وأصحاب الرأي في البلد، كذلك من خلال التعرض للصحفيين في الشارع والتهديدات وقطع البث والتهديد بالناس والمناصرين، اليوم تتخذ هذه المحاولات اتجاهات رسمية لتصبح عبارة عن إرهاب دولة.”

من جهته، يؤكد شحرور أن “حزب الله يمثل اليوم رأس حربة فريق سلطته والنظام الحاكم، هذا الحزب العسكري يتهم الإعلام بالاعتداء عليه ويتوعد بالرد على المحتوى الإعلامي الذي لا يناسبه. لا نعرف ما هو رده ولا نستطيع أن ننسى أنه حزب عسكري أيضاً، فيما السلاح المقابل له هو الكلمة، خلاصة القول إن أي أحد سيتكلم بعكس مزاج حزب الله سيتعرض له بطريقته، ولديه سوابق في ذلك، والأساليب والضعيف يزداد شراسة أكتر ولن نستغرب مهما بلغ العنف والأساليب المتبعة فكله وارد في هذه المرحلة.”

سوابق بين الطرفين

يذكر أن لحزب الله وجمهوره تاريخ من المواجهات مع الإعلام والاعتداء عليه على امتداد السنوات الـ15 الماضية، أشهرها كان أعمال الشغب وقطع الطرقات بسبب تقليد ساخر لشخصية نصر الله في برنامج كوميدي على قناة “LBCI”، ليتكرر الأمر نفسه وللسبب نفسه عام 2013. ومن قبل حاول أحد أنصار الحزب إحراق مبنى قناة الجديد اعتراضاً على انتقادات للحزب، في حين أقدم عناصر الحزب في مرحلة لاحقة على إحراق مبنى قناة وصحيفة المستقبل خلال أحداث 7 أيار، كذلك قامت مجموعات من أنصاره باقتحام مكاتب صحيفة الشرق الأوسط في بيروت بحجة رسم كاريكاتوري، إضافة إلى لائحة طويلة من الاعتداءات على المراسلين والصحفيين في الشارع ومناطق نفوذه إضافة إلى حملات تخوين وتهديد يومية تمارسها جيوشه الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي.

كل ذلك يدفع للسؤال عن مدى قدرة الإعلام اللبناني على ممارسة دوره المهني في الرقابة على السلطات وكشف الفساد ومتابعة التحقيقات في القضايا الكبرى، في حين Hنه يتعرض لهذا الحجم من الضغط الذي تمثله الاتهامات المسبقة والتهديدات العلنية، ومحاولات إرهابه أمنيا ورسمياً، في محاولة للسيطرة على السلطة الرابعة التي لا تزال السلطة الفاعلة الوحيدة التي تمارس دورها بينما تضرب باقي السلطات ويسيطر على قرارها وينعدم دورها.

يرى مدير الأخبار والبرامج السياسية في قناة “MTV” غياث يزبك التي تواجه حجباً لبثها في مناطق نفوذ حزب الله، أنه “من الطبيعي اليوم أن نشهد محاولات لتطويع السلطة الرابعة على غرار ما فعلوا مع باقي السلطات، إذ يعلمون أنه في كل مرة تضرب السلطات وتعطل ويسيطر عليها عبر تاريخ البلاد، كانت تنبري من بينها السلطة الرابعة، لاسيما المستقلة منها مؤسسات وأفراد، وتنحو باتجاه عدم محاباة السلطة وتلبيتها، بمعزل عما يقدمه “الاعلام الداجن”، فكنا مجموعة صغيرة جداً وخضنا معركة إخراج سوريا من لبنان وأعلناها في حينها حرباً إعلامية سلمية تبشر بالحريات، وانتصرنا واستطعنا إخراج سوريا من لبنان وغيرنا الكثير من الوقائع.

يضيف يزبك “هذه المجموعة باتت أقل اليوم، اغتيلت كوادر إعلامية، ومن بقي ينتظر دوره طالما أنه يخوض معركة بناء الدولة واستعادة السيادة الداخلية والخارجية، على قرار السلم والحرب، ووحدانية السلاح للدولة، وبناء القضاء واستعادة دور المجلس النيابي، وتسخير السلطة التنفيذية في بناء دولة مواطنة علمانية، وينعكس كل ذلك عند رأس الهرم عبر رئيس قوي لكل اللبنانيين لا يستقوي بطرف على الآخرين.”

الوزيرة عبد الصمد تؤكد “أن الإعلام يتعرض لضغوطات عند نقله للواقع القائم وإضاءته على المواضيع والشوائب التي تحصل في البلاد، وهذه الضغوطات تتنوع ما بين استدعاءات أمنية وتحقيقات وملاحقات وتهديدات، وهنا دورنا الذي نقوم به في وزارة الإعلام عبر التواصل مع وزارة الداخلية والدفاع للتصدي ومنع أي اعتداء على الصحافة، إلى حين إقرار قانون الإعلام الجديد الذي يحمي الصحفيين من أي إساءة ويعرض المرتكبين لعقوبات مشددة.”

ولكن في زمن انعدام القانون، يقف الإعلام اللبناني اليوم بين خيارين، إما الرضوخ للضغوطات والانصياع لإرادة السلطة وأحزابها وتطويع سياساتها التحريرية، وإما المواجهة التي قد تضعهم أمام احتمالات وقوع التهديدات والاتهامات الجاهزة والمعلبة مسبقاً بإثارة الفتنة وحملات التحريض.

“مقدماتنا وتقاريرنا خلال الأسبوع الماضي، حملت ردنا على ممارسات السلطة”، تقول المديرة التنفيذية لقسم الأخبار في قناة “LBCI” لارا زلعوم، وتضيف “في اليوم نفسه لاستدعاء وسائل الإعلام إلى المجلس النيابي، خرجنا بمقدمة نشرة الأخبار وقلنا بالفم الملآن “زمن أول تحول ولم يعد غازي كنعان في لبنان”.

وفي اتصال مع موقع “الحرة” تشدد زلعوم “نحن كقناة لا نخرج بأي تقرير أو خبر أو معلومة بدون التأكد منها، أياً كان الطرف المعني بالمادة الإعلامية حزب الله أو غيره، هذه الأمور نكيلها بميزان من ذهب، وعليه فإن حصلنا على معلومة مؤكدة تثبت أن حزب الله ضالع مثلاً بانفجار مرفأ بيروت، أو أنه مسؤول عن اغتيال لقمان سليم، من قريب أو من بعيد، سوف أستخدم المعلومة وانشرها دون أي تردد مهما بلغت التهديدات أو الحملات والاتهامات المسبقة، كله يعتمد على دقة المعلومة”.

بدوره، يقول يزبك إن “قررنا أن نعمل بكامل الحرية فندفع ثمنها أو نقبضه، وكل خبر أو معلومة تردنا تتعلق بحزب الله أو أي حزب آخر من أحزاب المنظومة السياسية الحاكمة، نعتبر أن الإشارة إليه وفضحه والكلام عنه، يؤدي إلى تحصين الوحدة الوطنية وتعزيز سمعة لبنان وإلى هدم مدماك من المداميك العائقة في وجه تغيير صورة لبنان وبناء مدماك آخر لصالح مشروع بناء الدولة، ونحن نسير وفق ذلك دون خوف من أحد، ولن تتبدل سياستنا التحريرية لأي سبب كان.”

ويضيف “لم تترك تلك الاستدعاءات والتهديدات أي أثر على عملنا الإعلامي الذي مارسناه في أصعب الظروف تحت الاحتلال السوري من التسعينات وحتى العام 2005، من بعدها أيضاً تابعنا المواجهة الإعلامية مع السلطة اللبنانية البديلة التي عادت تمارس ما كانت تمارسه الوصاية السورية بكل أسف. هذا الواقع تعايشنا معه دون أن نقبل به.”

تختم زلعوم “على مدى تاريخ لبنان كان هناك محاولات لتطويع السلطة الرابعة، المهم النتيجة وليس المحاولات”.